ما شاهدناه في الأيام الأخيرة من حوادث عنصرية في المجتمع التركي أمر بالغ الخطورة والأثر، وينذر بعواقب وخيمة، وآثار كارثية كبيرة، على مستوى الدولة، ومستوى المجتمع، ومستوى الأفراد جميعاً.
ومن الحق أن نقول: إن العنصرية في المجتمع التركي ليست بين أتراك وغير أتراك فقط، بل بين الأتراك أنفسهم، وبين الأتراك والعرب، وبين الأتراك والأكراد، وبين العرب والعرب، فالعنصرية إذن موجودة بين فئات وشرائح متنوعة، وإن كانت بنسب متفاوتة.
كما أنه من الحق أن نقول: إن العنصرية موجودة في مجتمعات كثيرة، ولكنها بنسب متفاوتة، وهناك مستوى مقبول من العنصرية يمكن تحمله بحكم الطبيعة البشرية والطبيعة المجتمعية، وهناك مستوى لا يمكن تقبّلُه أو تحمله، بل لا بد من مواجهته ووضع حد له، لما له من آثار سلبية تعود بالخراب والدمار على الجميع.
وإن الذي شاهدناه في المجتمع التركي (قيصري، وقونية، وهاطاي، وإزمير، وأضنه، وإسطنبول) وغيرها من الولايات أمر بلغ حداً لا يمكن تجاهله أو السكوت عنه؛ لأنه طال الأنفس وإزهاق الأرواح وإسالة الدماء، والاعتداء على ممتلكات عامة وخاصة، وهنا يجب أن تكون وقفة وإجراءات.
موقف القرآن والسُّنة من العنصرية
إن الشريعة الإسلامية وقد جاءت بمصالح الناس في الدنيا والآخرة قد رفضت هذه العنصرية، وشنعت على من يقوم بها، وأغلظت النكير على فاعليه، وأقامت العدالة المطلقة والمساواة المحققة للعدالة ميزاناً وحاكماً على الناس جميعاً في الدنيا والآخرة.
فقد قال القرآن الكريم: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70)، وهذا التكريم شامل لكل الناس، لا فرق فيهم بين غني وفقير، أو شريف وحقير، أو حاكم ومحكوم، أو أبيض وأسود، أو متعلم وجاهل، فالكل مكرم من الله تعالى، وهذا التكريم يناقض العنصرية من كل الوجوه.
وجعل القرآن الكريم الميزان الذي يتفاضل به الناس ليس التركي ولا الكردي ولا العربي ولا الفارسي، ولا الأمازيغي أو البربري، ولا الأمريكي أو الأوروبي، وإنما ميزان التفاضل هو التقوى والعمل الصالح، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
وسوف نحشر أمام الله تعالى بأعمالنا وإيماننا، ونقف أمام الله في مشهدِ عدلٍ ومساواة، ولن نقف أمامه بأوصافنا القومية أو الوطنية أو العرقية، قال تعالى: (وَكُلُّهُمۡ ءَاتِیهِ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ فَرۡدًا) (مريم: 95)، وقال: (یَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَیۡرࣲ مُّحۡضَرࣰا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوۤءࣲ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَیۡنَهَا وَبَیۡنَهُۥۤ أَمَدَۢا بَعِیدࣰاۗ وَیُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ) (آل عمران: 30)، وقال: (یَوۡمَىِٕذࣲ یَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِیَ لَا عِوَجَ لَهُۥۖ وَخَشَعَتِ ٱلۡأَصۡوَاتُ لِلرَّحۡمَـٰنِ فَلَا تَسۡمَعُ إِلَّا هَمۡسࣰا) (طه: 108).
هذه الآيات الكريمة وغيرها كثير جداً في القرآن الكريم لم تتحدث عن أوصاف قومية ولا وطنية، ولا طبقية، ولا أقامت اعتباراً للوظائف والمناصب، وإنما تحدثت عن النفوس البشرية، مطلق النفوس، وكل النفوس، وسائر البشر، فلا فضل لأحد على أحد، وإنما المعيار والميزان هو التقوى والعمل الصالح.
أما السُّنة النبوية فقد حفلت بالحديث عن مساواة البشر، وأنهم جميعاً من تراب، ومصيرهم إلى تراب، وانظر كيف سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين شخصه الشريف وامرأة سفعاء الخدين، فقد روى البيهقي في شعب الإيمان بسنده عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا أُمامةَ، ما أنا وأمَةٌ سفعاءُ الخدَّيْن سفعاءُ المِعصمَيْن آمنَتْ بربِّها وتحنَّنَتْ على ولدِها إلّا كهاتَيْن، وفرَّق بين السَّبّابةِ والوُسطى، واللهُ أذهبُ نَخوةَ الجاهليَّةِ وتكبُّرَها بآبائِها، كلُّكم لآدمِ وحوّاءَ، كطفِّ الصّاعِ بالصّاعِ، وإنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكم، فمن أتاكم ترضَوْن دِينَه وأمانتَه فزوِّجوه» (شعب الإيمان، 4/ 180).
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الحسد والبغضاء، وهي من أسباب ممارسة العنصرية، تحلق الدين، فقال: «دبَّ إليكم داءُ الأممِ قبلَكمُ الحسدُ والبغضاءُ هيَ الحالقةُ لا أقولُ تحلقُ الشَّعرَ ولكن تحلق الدِّينَ» (أخرجه مطولاً الترمذي (2510) واللفظ له، وأحمد (1412) بسندهما عن البر بن العوام).
وفي حديث أبي نضرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيُّها النّاسُ، ألا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على أعجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عرَبيٍّ، ولا أحمَرَ على أسوَدَ، ولا أسوَدَ على أحمَرَ إلّا بالتَّقْوى» (شعيب الأرنؤوط، تخريج شرح الطحاوية (510)، رجاله ثقات، وإسناده صحيح، وأخرجه أحمد (23489) باختلاف يسير).
وفي بيان أن التقاتل والتهارش انطلاقاً من القوميات والعصبيات وممارسة العنصرية بسبب ذلك أمر منكر وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من دعوى الجاهلية، فقد روى زيد بن أسلم أنَّ شاسَ بنَ قيسٍ اليهوديَّ وكان عظيمَ الكفرِ شديدَ العداوةِ للمسلمين مرَّ يومًا على الأنصارِ مِنَ الأوسِ والخزرجِ في مجلسٍ يتحدَّثون فغاظه ذلك حيثُ تآلفوا واجتمعوا بعدَ العداوةِ فأمر شابًّا مِنَ اليهودِ أن يجلسَ إليهم ويذكِّرَهم يومَ «بُعاثٍ» ويُنشِدَهم ما قيل فيه مِنَ الأشعارِ وكان يومًا اقتتلتْ فيه الأوسُ والخزرجُ وكان الظفَرُ فيه للأوسِ ففعل فتشاجر القومُ وتنازعوا وقالوا: السلاحَ السِّلاحَ.
فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه مِنَ المهاجرينَ والأنصارِ، فقال: «أتدْعونَ الجاهليةَ وأنا بين أظهُرِكم بعد إذ أكرمكمُ اللهُ بالإسلامِ وقطع به عنكم أمرَ الجاهليةِ وألَّف بينكم».
فعرف القومُ أنه نزعةٌ مِنَ الشيطانِ وكيدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ فألقَوُا السلاحَ وبكَوا وعانق بعضُهم بعضًا ثم انصرفوا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فما كان يومٌ أقبحَ أولا وأحسنَ آخرًا منْ ذلك اليومِ. (قال الزيلعي، في تخريج الكشاف (1/ 208): «روي من طريقتين»، وقال الشوكاني في فتح القدير (1/ 548): «رويت هذه القصة مختصرة ومطولة من طرق»).
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لام لوماً شديداً صحابياً مارس العنصرية على صحابي آخر، ووصفه بـ«ابن السوداء»، فانظر ما ذا حدث؟!
ذكر ابن بطال في «شرح صحيح البخاري» (1/ 87) هذه القصة، فقال: روى الوليد بن مسلم، عن أبي بكر، عن ضمرة بن حبيب، قال: كان بين أبي ذر وبين بلال محاورة، فعيره أبو ذر بسواد أمه، فانطلق بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكا إليه تعييره بذلك، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوه، فلما جاءه أبو ذر، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شتمت بلالاً وعيَّرته بسواد أمه؟»، قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمت ما كنت أحسب أنه بقي في صدرك من كبر الجاهلية شيء»، فألقى أبو ذر نفسه بالأرض، ثم وضع خده على التراب، وقال: والله لا أرفع خدي من التراب حتى يطأ بلال خدي بقدمه، فوطأ خده بقدمه.
فهذه نصوص وآثار من القرآن الكريم والسُّنة النبوية في ذم العنصرية، وبيان أنها من الجاهلية، وأن من يفعلها فإن فيه شيئاً من الجاهلية، وهي من دعوى الجاهلية، وقد نزهنا الله تعالى عنها بالإسلام، وبعقيدته وشريعته، وأخلاقه وسلوكه، وقيمه وموازينه، وأن الناس جميعًا سواء أمام الله في التكليف، وسواء أمامه في ساحة العرض عليه يوم القيامة، لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى.
مقاصد الشريعة والعنصرية
إن من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ نظام المجتمع، وحفظ الأمن فيه، وهذا ما أثبتته عشرات النصوص في القرآن الكريم والسُّنة النبوية، وهذا يتناقض جملة وتفصيلاً مع العنصرية التي نراها اليوم تحرق المجتمع، وتؤثر سلباً على الدولة، كما تؤثر سلباً على قيادتها ومؤسساتها، وتعرض الناس لإزهاق الأرواح وإسالة الدماء، وتدمير الأموال العامة والخاصة، وهو أمر محرم بيقين في شريعة الإسلام، وفي كل قوانين الدنيا، بما فيها القوانين التركية.
وقد قال الإمام الطاهر بن عاشور: «أنبأنا استقراء الشريعة من أقوالها وتصرفاتها بأن مقصدها أن يكون للأمة ولاة يسوسون مصالحها، ويقيمون العدل فيها، وينفذون أحكام الشريعة بينها، ولهذا تعين إقامة ولاة لأمورها، وإقامة قوة تعين أولئك الولاة على تنفيذها» (كتاب «مقاصد الشريعة»، 3/ 518).
وقد خصص رحمه الله كتابًا مستقلًا لأصول النظام الاجتماعي في الإسلام تحدث فيه بإسهاب عن أصول الإصلاح الاجتماعي؛ حيث أكد أهمية مقصد حفظ نظام الأمة، وأن «مراد الله في الأديان كلها؛ منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد؛ وهو حفظ نظام العالم وصلاح أحوال أهله» (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص 8).
ومن مظاهر حفظ النظام العام في القرآن الكريم تشريع الحدود، فقد تكلم عن حد السرقة، وحد الزنى، وحد الحرابة، والمقصد الأعلى من هذه الحدود هو حفظ نظام المجتمع وتأمين الناس.
ومن مظاهر حفظ النظام العام في السُّنة النبوية: إرساء مبدأ التساوي بين أفراد المجتمع أمام التعاليم والمسؤوليات، ومحاربة التمييز بين الناس بناء على معايير القوة والضعف، كما في الصحيحين عن عائشة، أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله؟» ثم قام فاختطب، فقال: «أيها الناس، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (صحيح البخاري، 3475).
ما الواجب عمله الآن؟
إن الواجب الأول هنا يقع الحكومة التركية والرئيس التركي، وذلك بالضرب بيد من حديد على من يعمل على تقويض أمن الناس وأمن المجتمع؛ لأن العنصرية داء خطير، وهو بمثابة كرة نار، تتدحرج بفعل فاعل حتى تحرق المجتمع، وتحرق الأخضر واليابس، وتحلق الدين.
وقد طالبنا فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان في لقاء العلماء معه، أغسطس 2023م في أنقرة بأنه من الضروري مواجهة هذه العنصرية البغيضة، ووضع تشريع قانوني لتجريمها وتحديد عقوبات من يمارسها، أو يقوم بها، ولعل الوقت قد حان الآن أكثر من أي وقت مضى للقيام بذلك؛ منعًا لأي ضرر، وحفظًا للأمن المجتمعي.
كما أن هناك واجبًا يقع على عاتق قادة الرأي في المجتمع، وعلى رئاسة الشؤون الدينية، بأن يقوموا ببث الوعي في المجتمع، وبيان كراهية الدين لهذا الداء الخطير، وذكر الأوصاف الواردة في الشرع لمن يقوم بذلك، وبيان عاقبته في الدنيا والآخرة.
وهناك واجب آخر مجتمعي، وهو أن يحذر المجتمع من الوقوع في هذه المعصية التي تعد كبيرة من الكبائر في نظر الشرع، وفي نظر أي مجتمع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ ولهذا جرمتها قوانين العالم؛ لما فيها من تقويض مقدرات المجتمع، وإفقاد الناس أمنهم وأمانهم.
كما أنه من واجب من يمارَس عليه العنصرية أن يكون فطنًا ذكيًّا، يفوّت الفرصة على من يمارسونها، وألا يورط نفسه معهم بحال من الأحوال.
حفظ الله مجتمعاتنا وأوطاننا من العنصرية وآثارها، وهدى من يقوم بها للرشاد والسداد، ووفق القائمين على الأمر إلى عمل الخير وخير العمل.