لم تكن العشوائية جزءاً من الحياة الإسلامية في يوم من الأيام التي غرس فيها النبي صلى الله عليه وسلم بذور الحضارة الإسلامية، إذ العشوائية لا تنتج إلا الفشل والإخفاق، بل إن الحياة الإسلامية لم تقم يوماً إلا على الفهم العميق والتخطيط الدقيق.
وإن المتدبر في أحداث الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة يدرك أن من مظاهر هذا التخطيط الدقيق حسن توزيع المهام والأعمال التي تستلزمها الهجرة، فما المهام التي تم تنفيذها من أجل إنجاح الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة؟ وما الفلسفة التي قام عليها هذا التوزيع؟
أولاً: المهام المطلوبة في الهجرة وتوزيعها على الأفراد:
إن تحديد المهام ضرورة سياسية تضمن حسن إدارة العمل وتسهم في نجاحه، حتى يعرف كلٌّ دوره فلا تتنازع الاختصاصات، ولا تتداخل، وفي الوقت نفسه يتحقق التكامل بين هذه الاختصاصات حتى تؤدي في النهاية إلى تحقيق الهدف المرغوب، ولقد كانت المهام المطلوبة لنجاح خطة الهجرة: الإعداد والتجهيز، الإمداد والتمويل، الاستطلاع والتخابر، الإرشاد واقتفاء الأثر، التمويه على الأعداء(1)، ويتبين ذلك فيما يأتي:
1- مهام الإعداد والتجهيز: لقد تكفل سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه بمهام الإعداد، والتجهيز للهجرة، فأعد ناقتين، إحداهما للرسول صلى الله عليه وسلم والأخرى له، قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر رجلاً ذا مال، فكان حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل، لعل الله يجد لك صاحباً»، قد طمع بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما يعني نفسه، حين قال له ذلك، فابتاع راحلتين، فاحتبسهما في داره، يعلفهما إعداداً لذلك(2).
2- مهام الإمداد والتمويل: أُسندت هذه المهمة إلى كل من السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق، وسيدنا عامر بن فهيرة، أما أسماء فكانت تحمل الطعام للرسول صلى الله عليه وسلم وأبيها في الغار، حيث أتتهما بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها حبلاً تشد به الطعام، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها حبل تشده به، فقامت بحل نطاقها فجعلته حبلاً، ثم علقت به الطعام، فكان يقال لأسماء بنت أبي بكر «ذات النطاقين» بسبب ذلك، وأما عامر بن فهيرة فكان دوره في عملية الإمداد، أن يذهب إلى الغار ليلًا، ويمد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه بحاجتهما من اللبن.
3- مهام الاستطلاع والتخابر: تكفل عبدالله بن أبي بكر بدور رجل الاستطلاع، فكان يبيت مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، ويصبح مع قريش وكأنه بائت معهم، ثم يعود بأخبار قريش إلى الغار.
4- مهام الإرشاد واقتفاء الأثر: قام عبدالله بن أريقط، خبير الصحراء البصير، ودليل الهجرة الأمين، بمهام الإرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الطريق من مكة إلى المدينة.
5- التمويه على الأعداء: لقد قام بهذه المهمة أكثر من فرد، حيث شارك فيها عامر بن فهيرة حين كان يسير بغنمه في الطريق الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه؛ ليزيل آثار أقدامهما، وظل بعد كل رحلة لعبدالله أو أسماء يؤدي المهمة، ويزيل آثار الأقدام، كما شارك في هذه المهمة أيضاً سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنوم في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة؛ ليوهم قريشًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في فراشه لم يغادر بيته، ويعد كل من شارك في الهجرة قد قام بدوره في مهام الخداع والتمويه، وذلك بعوامل السرية المطلقة التي فرضوها على خطة الهجرة فلن تستبن قريش ملامحها.
ثانياً: الفلسفة السياسية التي قامت عليها توزيع مهام الهجرة النبوية:
1- مبدأ توزيع العمل: فلا يقوم فرد واحد بجميع الأعمال، لأن هذا قد يؤدي إلى إرهاقه، كما قد يؤدي إلى تضييع العمل عند فشله أو ضعفه عن القيام بالمهمة، ومن هنا كان توزيع الرسول صلى الله عليه وسلم للأعمال في الهجرة النبوية عملاً مهماً، حيث ابتعد عن تركيزها في شخصه الشريف أو صاحبه الكريم.
2- وضوح الرؤية: لقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم مهام الهجرة وأعمالها لبعض الأفراد، بعد أن بيّن لهم الرؤية الواضحة لطبيعة عمل كل واحد منهم، والأخطار التي يمكن أن تقع وسبل معالجتها، بحيث يتحرك كل فرد منهم وهو على بينة من أمره، وعلى دراية بما يجب أن يقوم به، والبدائل التي يمكن أن يلجأ إليها عند وقوع الطوارئ.
3- القدرة والكفاءة: فقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم لكل مهمة من يحسن القيام بها، ولديه القدرة على أدائها، والخبرة في ممارستها، حتى يؤدي العمل بنجاح ويتحقق الهدف المطلوب، ومما يدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعان في رحلة الهجرة بخبير يعرف مسالك البادية، ومسارب الصحراء، حتى ولو كان ذلك الخبير مشركاً، ما دام على خلق ورزانة، وفي هذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها(3).
4- الانضباط: فقد قام كل فرد بدوره كما هو مرسوم له، من يؤدي بالليل لا يمكن له أن يستبدل عمله بالنهار، ومن يؤدي عمله أولاً لا يمكن أن يتأخر به حتى يفوت وقته، وقد حدث ذلك في الهجرة، حيث تذهب السيدة أسماء بالطعام فيقوم عامر بن فهيرة بعدها بالسير بالأغنام لمحو آثار الأقدام، وكذا مع حامل الأخبار.
5- التكامل بين الأدوار: فقد كانت كل مهمة تخدم أختها، فمهام توصيل الطعام والأخبار تحتاج إلى محو آثار الأقدام، ولذلك أتت بعدها، وكل هذه المهام تحتاج إلى ترتيب وتنسيق، وقد حدث ذلك حتى إن الثلاثة الذين كانوا يرتادون الغار كانوا يذهبون إليه في أوقات مختلفة، فلم يحدث أن التقوا مرة واحدة.
_________________________
(1) السياسة الشرعية، مناهج جامعة المدينة العالمية، ص 657.
(2) السيرة النبوية، ابن هشام (1/ 485).
(3) الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي جزولي، ص 361.