الناس نوعان: مستعمَل، ومستبدَل.
أما المستعمل فهو الذي أراد الله عز وجل له الخير فاستعمله في طاعته، وأنار بصيرته، وهداه وأرشده، وفتح عليه من العمل الصالح ما يقيم عليه ويستمر فيه حتى يأتي أجلُه فيقبض عليه، والناس عنه راضون، قد طاب ذكره بينهم وحلا في قلوبهم.
وأما المستبدل فهو الذي أعرض عن أوامر الله تعالى فأعرض الله عنه واستعمل غيره، فيُقبض على ذلك والناس عليه ساخطون، قد ساء ذكره بينهم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مات رجل فمروا بجنازته على النبي صلى الله عليه وسلم فأثنَوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت»، ومروا بأخرى فأثنَوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت»، فسأله عمر عن ذلك، فقال: «أنتم شهود الله في الأرض»(1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد اللهُ عز وجل بعبْدٍ خيرًا استعمله»، قيل: وما استعمله؟ قال: «يفتَح له عملًا صالحًا بين يَدَي مَوْته، حتى يرضَى عنه مَنْ حولَه»(2)، وفي رواية: «إذا أراد الله بعبْدٍ خيرًا عَسَلَه»، قيل: وما عَسَله؟ قال: «يفتَح الله عز وجل له عملًا صالحًا قبل موته ثم يَقْبِضُه عليه»(3)، قال ابن فارس: ومعناه: طيّب ذكره وحلاه في قلوب الناس بالصالح من العمل(4)، وفي رواية أخرى: «إذا أراد الله بعبْدٍ خيرًا، طهَّرَه قبل موته»، قالوا: وما طَهُور العَبْد؟ قال: «عملٌ صالحٌ يُلهمُه إيَّاه حتى يقْبِضَه عليه»(5)، قال ابن فارس: والتطهر: التنزه عن الذم وكل قبيح(6).
مما سبق من أحاديث يتبين لنا أنه لتحقق الخيرية في العبد شرطان لا بد منهما، وهما: استعماله في العمال الصالح، واستمراره في فعله حتى يموت، فلا عجب أن يكون أحسن الناس عملاً من استعمله الله تعالى في الجهاد فخرج بنفسه وماله في سبيل الله ولم يرجع بشيء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما العمل في أيام أفضل من هذه» -يعني العشر الأول من ذي الحجة- قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء»(7).
وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: «لا أجده»، قال: «هلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ ولَا تَفْتُرَ، وتَصُومَ ولَا تُفْطِرَ؟» قَالَ: ومَن يَسْتَطِيعُ ذلكَ(8)؟!
ووالله إنا لنغبط أهل غزة، فقد استعملهم الله في الجهاد في سبيله، واستعملهم لإيقاظ الأمة من غفلتها، فصبروا وصمدوا احتساباً لله، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، وهنيئاً لذلك الشهيد المجاهد الساجد الذي قبضه الله تعالى مجاهداً مقبلاً ساجداً، وهنيئاً لإخوانه المجاهدين ممن عرفنا وممن لم نعرف، وهنيئاً لمن صبر من أهل غزة على البلاء ودعم الجهاد، فاحتسب تدمير بيته وفقد أحبته، وهنيئاً لكل مسلم استعمله الله تعالى في نصرة المجاهدين وحاضنتهم الشعبية بالمال والإعلام والدعاء والحض على الجهاد، واعلموا أن خيرية الأمة الإسلامية مرهون بإيمانها بالله تعالى وبقيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110)، وإن الجهاد في سبيل الله لرد المحتلين والمعتدين، ولتحرير المقدسات واستنقاذ الأسرى والمستضعفين ليأتي في ذروة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإن الناس يتفاوتون في الخيرية بقدر لزومهم للأعمال الصالحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله، وآمرُهُم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم»(10)، فليتمسك كل واحد منا بعمل صالح جليل، يرفع به نزله، ويطيب به ذكره، ولتلهج ألستنا بهذا الدعاء: اللهم استعملنا ولا تستبدل بنا.
______________________
(1) رواه ابن حبان (ح3027) مؤسسة الرسالة ط2، 1414هـ.
(2) السيوطي، الجامع الصغير (ح379).
(3) السيوطي، الجامع الصغير (ح400).
(4) ابن فارس، مقاييس اللغة، مادة «عسل».
(5) السيوطي، الجامع الصغير (ح381)، الهيثمي، مجمع الزوائد (7/ 218).
(6) ابن فارس، مقاييس اللغة، مادة «طهر».
(7) رواه البخاري (ح696).
(8) رواه البخاري (ح2785).
(9) رواه أحمد، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر (7/ 266).