تحولت وسائل التواصل الاجتماعي، في عصر الإنترنت والهواتف الذكية، إلى جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فالمنصات لم تغير فقط طريقة تواصلنا مع بعضنا بعضاً، بل أحدثت ثورة في كيفية نشر الأفكار والمعتقدات والأيديولوجيات حول العالم، ما كان له بالغ الأثر في نمط نشر الدعوة إلى الإسلام العظيم.
فالانتشار السريع للأفكار له جانبان؛ أحدهما إيجابي يتمثل في نشر الوعي والمعرفة، والآخر سلبي يتمثل في زيادة احتمالية انتشار المعلومات المضللة، وفي هذا الإطار، يشير عالم الاجتماع الإسباني الشهير مانويل كاستلز، في كتابه «مجتمع الشبكات»، إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي خلقت بنية تحتية للانتشار السريع للأفكار، ما يسمح للحركات الاجتماعية والفكرية بالنمو بسرعة غير مسبوقة.
كما تؤكد الباحثة في علاقة التكنولوجيا بالمجتمع د. دانا بويد، في كتابها «إنه معقد»، أن السرعة التي تنتشر بها المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي تجعل من الصعب التحقق من صحتها، ما يخلق بيئة خصبة لانتشار الشائعات والمعلومات المغلوطة.
أحد أهم تأثيرات وسائل التواصل تغيير ديناميكيات السلطة المعرفية، إذ قوضت هذه الوسائل احتكار المؤسسات التقليدية للمعلومات؛ ما سمح لأصوات جديدة بالظهور والتأثير، حسبما قرر د. كلاي شيركي، أستاذ نظرية الاتصالات في جامعة نيويورك، في كتابه «هنا يأتي الجميع»، مشيراً إلى أن هذا التحول في السلطة المعرفية له تأثيرات عميقة على كيفية تشكيل الرأي العام وانتشار الأيديولوجيات.
وتؤكد أستاذة علم الاجتماع في جامعة نورث كارولينا د. زينب توفيكجي، في كتابها «تويتر والغاز المسيل للدموع»، أن وسائل التواصل مكنت الحركات الاجتماعية من تجاوز وسائل الإعلام التقليدية وإيصال رسائلها مباشرة إلى الجمهور؛ وعليه فإن هذه السائل الجديدة لم تغير فقط طريقة نشر الأفكار، بل أثرت أيضاً على كيفية تشكيل الهويات وتعزيز الانتماءات.
هذا المعنى عبر عنه ببراعة عنوان «معاً وحيدين» لكتاب د. شيري تيركل، عالمة النفس في معهد ماساتشوستس الأمريكي، الذي شرحت فيه كيف أن المنصات الرقمية توفر مساحات افتراضية لتشكيل المجتمعات وتعزيز الهويات المشتركة، ما يسهل على الأفراد العثور على آخرين يشاركونهم نفس الأفكار والمعتقدات، مع بقاء حالة الفردانية مهيمنة على علاقاتهم الاجتماعية.
وهذا التشكيل للهويات عبر الإنترنت له تأثيرات إيجابية وسلبية، فهو من جهة يوفر الدعم والتضامن للأفراد الذين قد يشعرون بالعزلة في مجتمعاتهم المحلية، ومن جهة أخرى قد يؤدي إلى ما يسميه د. كاس سانشتاين، أستاذ القانون في جامعة هارفارد، في كتابه «صدى الغرف»، بـ«غرف الصدى»، حيث يتعرض الأفراد فقط للآراء التي تتفق مع معتقداتهم؛ ما يعزز التطرف ويقلل من التنوع الفكري، حسب تقديره.
الموثوقية والمصداقية
مع سهولة نشر المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي، برزت تحديات جديدة تتعلق بالموثوقية والمصداقية، ومنها ما يتعلق بنشر معلومات مغلوطة عن الإسلام وقيمه وأحكامه، وهو ما حذر منه د. إيلي باريسر، الباحث في تطور الإنترنت، الذي يحذر، في كتابه «فقاعة الفلتر»، من أن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تميل إلى عرض المحتوى الذي يتفق مع آراء المستخدم؛ ما يخلق واقعاً معلوماتياً مشوهاً.
وفي ضوء هذه التحديات، يقترح الباحثون والمفكرون عدة إستراتيجيات للتعامل مع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على نشر الأفكار، وبالتالي تعزيز قدرة الدعاة المسلمين على نشر الإسلام والدعوة إليه، على رأسها تعزيز التربية الإعلامية بحسب تعبير د. رينيه هوبس، مدير مختبر التربية الإعلامية في جامعة رود آيلاند، في كتابه «خلق المواطنين الرقميين».
ويؤكد هوبس، في كتابه، أهمية تعليم الأفراد كيفية التفكير النقدي حول المعلومات التي يتلقونها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتطوير أدوات للتحقق من المعلومات، ومن بينها أدوات الذكاء الاصطناعي، التي أصبحت لغة العصر الحالي، التي يقفز تطورها بخطوات غير مسبوقة في أي تقنية سابقة.
وفي كتابه «أكاذيب الإنترنت»، يدعو د. فيليب هوارد، مدير معهد أكسفورد للإنترنت، إلى تطوير تقنيات ذكاء اصطناعي للمساعدة في التحقق من صحة المعلومات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يمكن تطويره في شكل «بوت» للتثبت من المعلومات المتداولة بشأن دين الإسلام وقيمه وشرائعه.
إن امتزاج وسائل التواصل مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي غير بشكل جذري طريقة نشر الأفكار والمعتقدات في عصرنا الحالي، وبينما توفر هذه المنصات فرصاً غير مسبوقة للتواصل وتبادل المعرفة، فإنها تطرح أيضاً تحديات جديدة تتعلق بالموثوقية ومكافحة التضليل.
ويلخص هذه المفارقة د. مانويل كاستلز، في مقاله «الشبكات الاجتماعية والتغيير»، الذي نشره بـ«المجلة الدولية للاتصالات» (International Journal of Communication)، عام 2019م، بقوله: إن وسائل التواصل سلاح ذو حدين في نشر الأفكار، إنها تمكن الأصوات المهمشة من الظهور، لكنها أيضاً تسهل انتشار المعلومات المضللة، مشيراً إلى أن التحدي الأكبر الذي نواجهه هو كيفية الاستفادة من إمكانات هذه المنصات مع تخفيف أخطارها.
غير أن عديد المفكرين الإسلاميين يرون أن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على نشر الأفكار والمعتقدات هو انعكاس لطبيعة المجتمع البشري نفسه؛ وبالتالي فإن أي اهتمام بالدعوة في العالم الافتراضي لا جدوى منها ما لم تكن موازية لاهتمام بالدعوة في العالم الواقعي.
فالتحدي الذي نواجهه كمجتمعات مسلمة يتمثل في كيفية توجيه القوة الهائلة لوسائل التواصل نحو تعزيز التفاهم والتقدم البشري، بدلاً من تعميق الانقسامات ونشر الجهل، وهو ما عبر عنه العلَّامة الراحل د. يوسف القرضاوي، في كتابه «خطابنا الإسلامي في عصر العولمة»، بقوله: إن التحدي الحقيقي ليس في استخدام التقنيات الحديثة، بل في الحفاظ على روح الدعوة الإسلامية وجوهرها في خضم هذه التحولات التكنولوجية.