كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن محاولة اغتيال الشيخ عثمان بن فودي، التي كانت بمثابة شرارة التحول في تاريخ دعوته، ومحاولة إرضاء ملك غوبر باوا له على إثرها، التي استغلها الشيخ في إملاء شروط لتحسين أوضاع المسلمين في المملكة، وتأثير ذلك على علو نجم الشيخ وانضمام الكثير إليه مما عجّل بمرحلة الصدام في عهد الملك ينفا، التي بدأت بهجرة الشيخ ثم إعلان الملك الحرب عليه وبيعة جماعة الشيخ له ليقود صدهم لعاديته.
حروب تأسيس الدولة
فور تمام البيعة، شكل الشيخ ملامح دولته الرئيسة، فاختار أخاه العالم الجليل عبدالله بن فودي ليكون وزيره الأول، وصديقه عمر الكموني وزيره الثاني، والشيخ محمد ثنبو كبيرًا للقضاة وإمامًا الصلاة، ومحمد بن الحسن الملقب بسعدار قائدًا للجيش(1).
ثم اجتهد الجنود في حفر خندق يحميهم من أي هجوم مباغت(2)، وما لبثوا حتى حصلت وقعة «كُتُو»، في مايو 1804م، التي وصفها أتباع الشيخ بأنها بمثابة يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، وذلك لأنها أعظم وقعة حصلت بين الفريقين؛ وكتب الله النصر فيها للشيخ وجماعته، وعلى إثرها هرب ينفا وترك ماله وملكه ونزل بموضع يقال له تنبغرك، ثم جمع بعض أنصاره وهرب إلى أقاصي البلد فعسكر فيها، فتبعتهم الجماعة حتى أردوهم في مكان يسمى غندو(3).
وقد استقر الشيخ فيه بعد مدة قصيرة وبنى فيه ابنه محمد بللو حصنًا منيعًا(4)؛ وذلك ليكون قريبًا من غوبر، وقد استغل ذلك بالفعل ففتح البلدان وأخضع الحصون حولها في أقل من 4 سنوات حتى تمكن من دخول العاصمة القاضاو بعد 3 معارك فيها، ففتحت غوبر في آخرهم، وقُتل الملك ينفا ورجال دولته، وذلك عام 1808م(5)، وكان هذا الانتصار بالنسبة لجماعة الشيخ بمثابة الفتح الأكبر، فبه أمنت سائر البلاد واستقر أمر الدولة.
الفتوحات التوسعية
لم يترك ملوك بلاد الهوسا دعوة الشيخ أو حتى وادعوها، بل ناصبوها بالعداء واضطهدوا من بأيديهم من الفلانيين، فبدأت مرحلة توسع دولة الشيخ في سائر تلك الممالك، ولم يكن الجيش في دولته منظمًا حسب ما هو متعارف عليه الآن، بل كانت طريقته أن يعقد ألوية لقادة جيشه أو لأفراد من أهل تلك البلاد لفتحها مع من تعاون معهم من المحيطين بهم، وقد أثمر هذا الأسلوب بدرجة كبيرة؛ ففتحت مملكة كبي بعد ضرب الحصار عليها وهروب سلطانها في أبريل 1805م(6)، ثم مملكة كانو بعد معركة طاحنة قُتل فيها ملكها عام 1807م، ثم ممالك كاتسينا، ودورا، وزاريا، وبوشي، وغميي، وغيرها كثير، حتى اتسعت دولة الشيخ فكان من ضمنها الممالك السبع الهوسوية القديمة بكاملها(7)، واشتهرت دولته بخلافة «صُكُتُو» الإسلامية نسبة لعاصمتها.
السجال العلمي بين جماعة الشيخ ومناوئيهم
وكعادة كل تجربة إصلاحية؛ لاقت دعوة الشيخ عنتًا من بعض المصدرين في عصره بالتشكيك في صلاحهم وعلميتهم، وقد نقل محمد بلو في «إنفاق الميسور» عددًا من المراسلات التي دارت بين جماعة الشيخ متمثلة فيه وفي عمه عبدالله وعدد من المناوئين لهم؛ ذكرت أن دعوتهم لم تقم على صحيح الدين؛ بل خالفت ما عليه أهل تلك البلاد من عوائد، وغالت في حملهم على عقيدتها وسلوكياتها، وقد دللت الجماعة على حججها العلمية ببيان مُفصَّل، ونقلت كلام أهل العلم سلفًا وخلفًا -لاسيما من كلام فقهاء المالكية- في مشروعية ما فعلت، وردت على شبهات المناوئين لها بردود قاطعة(8).
النظام السياسي
كانت الخلافة هي نظام دولة الشيخ عثمان بن فودي من أول يوم، فقد بايعه أتباعه -بعد تشاورهم- على السمع والطاعة، وبايعهم على اتباع الكتاب والسُّنة، وأسس نظام الشورى في اختيار الخليفة القادم(9)، وجعل مبدأ الشورى أساسًا في ولاية أي أمر في الدولة(10)، وجعل الشرط الأهم والأصل الأجلّ في كل ذلك ملازمة الكتاب والسُّنة وترك الأهواء والبدعة(11)، وقد حدد أسس الولاية وأركانها بالتفصيل، ووضع النظام السياسي والقضائي والإداري للدولة، وصنّف في ذلك كتابًا سماه «الفرق بين ولاية أهل الإسلام وبين ولاية أهل الكفر».
النظام الثقافي والتعليمي
مع ما سبق من ذكر الحالة العلمية المنتشرة في الفلانيين، فإنه قد يتوقع ما حدث بعد استقرار دولة الشيخ من الازدهار للجانب العلمي والثقافي، ويكفي في ذلك أن جامعة مسجد صكتو كانت من أشهر جامعات العالم حينئذ، وقد كثر بناء المساجد في عهده التي كانت تقوم بدور الجامعة تمامًا حينئذ(12)، وأنه على الرغم من انشغال الشيخ بالدعوة والفتوح، فإنه قد خرج على يديه وحده أكثر من مائة عالم فقيه وصلوا رتبة الاجتهاد(13)، فضلًا عن تراثه العلمي الواسع الذي فاق المائة مصنف(14)، هذا غير مؤلفات أخيه وأبنائه وتلامذته، ثم من سار على نهجهم طوال فترة قيام الدولة.
خاتمة
وقد بقيت دولة الشيخ في خلفائه متماسكة مدة من الدهر، ثم عرف الإنجليز طريق هذه البلاد فدخلوها، وبدؤوا بما سماه الإلوري «الحروب الصليبية الباردة» التي كانت تشتمل على الحملات التنصيرية(15)، فربّوا لهم أتباعًا في تلك البلاد، وأشربوهم بُغض الإسلام، وميزوهم عن باقي السكان سواء في التعليم والخدمات والتوظيف وغيرها من أسباب المعاش، وسعوا في زيادتهم ليتقووا بهم على حرب هذه الدولة الإسلامية التي بقيت لقرابة مائة عام، حتى سقطت رسميًا في يد الاحتلال البريطاني عام 1903م، لكن بقيت آثارها الدينية والعلمية والثقافية حاضرة في غرب ووسط أفريقيا، وبقي وجودها السياسي حتى الآن -لكن بزخم أقل بكثير- متمثلًا في حكم بعض الولايات الشمالية في نيجيريا ضمن الدولة الاتحادية، وكانت مثالًا يحتذى للمسلمين في جميع أفريقيا خلال العصر الحديث(16).
فرحم الله الشيخ ومن كان معه، وجزاهم عن ملايين المسلمين الذين عرفوا الإسلام في هذه البلاد عن طريقهم خير الجزاء.
_____________________
(1) الإسلام في نيجيريا، الإلوري، ص 156.
(2) إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، محمد بللو، ص 64.
(3) المرجع السابق، ص 66 – 71.
(4) الإسلام في نيجيريا، ص 160.
(5) إنفاق الميسور، ص 109.
(6) المرجع السابق، ص 132، وقد أرخ في هذا الكتاب لجميع المعارك التي حصلت في حياة الشيخ وحتى تأسيس الدولة.
(7) الهوسا وجيرانهم، مهدي آدامو، ضمن كتاب تاريخ أفريقيا العام، ج4، ص 273.
(8) إنفاق الميسور بدءًا من ص 114، وقد بدأه بسجال بينه وبين محمد الأمين الكانمي، ونقله الإلوري أيضًا من ص 173.
(9) الغيث الوبل في سيرة الإمام العدل، ص 37.
(10) أصول العدل لولاة الأمور وأهل الفضل، عثمان بن فودي، ص 4.
(11) أصول الولاية وشروطها، عثمان بن فودي، ص 2.
(12) الإسلام في نيجيريا، ص 135.
(13) المسلمون في غرب أفريقيا تاريخ وحضارة، محمد باري وسعيد كريديه، ص 270.
(14) إنفاق الميسور، ص 166.
(15) الإسلام في نيجيريا، ص 210.
(16) يراجع: الدولة المستحيلة في أفريقيا، حمدي عبدالرحمن، وحركة الجهاد الإسلامي في غرب أفريقيا في القرن التاسع عشر، أحمد محمد كاني.