كاتب المدونة: عزالدين مصطفى جلولي (*)
لا يستغرقن أحدنا فيما يحيط به من مشاغل، تبدو لفرط ثباتها مكتسبات ثابتة لا تتغير، المادية منها خاصة. الكل يستدرج إلى نهاية يريدها الله منا؛ فلنحذر من الأقدار إذا استدرجتنا، وأولاهم بالحذر، أولئك الذين آتاهم الله حظًا من الدنيا، تناولوه من طريق محرم، فهم فيه لاهون وبه فرحون.
“طوفان الأقصى” وهب الأمة طوفانًا من الوعي قلما تجود به الأيام، فدفع الكيسين من الناس إلى ضبط ساعاتهم على إيقاع السنن الكونية، التي تتحكم في سيرورة الحياة من كل جانب، أما من تأخر عن اللحاق بساعة الزمن، فلينتظر النوازل عندما تقع.
النظرة الأفقية مسدودة في قضية الدولة الفلسطينية، أما النظرة العمودية فمبهجة، ليس لأحد التصرف إلا فيما يملك وبالتي هي أصوب، أما ملك الأمة فلا أحد له الحق في المتاجرة به مهما كان شأنه.. المبادرة العربية وضعت من دون استشارة الشعوب، والزمن قتلها، فإذا استعصى الحل على هذا الجيل فالأمة ولادة، فلا نستعجلن النصر، وإن طال بنا الرباط.
حسم الصراع يكون في الميدان، وتحت بريق الأسنة ولمع السيوف، ولا يفيد فلسطين دموع من هنا أو عواطف من هناك. كثيرات قدمن أعمالًا بطولية، وكن في الصفوف الأولى مع المجاهدين. ومنهن من كانت تمد المقاومة بفلذات أكبادها، وتستنزل النصر في الخلوات.
يباهي الصهاينة بالتطرف والإرهاب جهارًا نهارًا، ويعلمون صغارهم كيف يحملون السلاح، ليكون الصهاينة وحوشًا يقتلون الفلسطينيين في الميدان، ونحن نحتشم أمام العالم أن يرانا كما نحن كائنون، بل إن بعضنا يغير من جلده الخشن ليكون مثل النواعم، ويخشى أن “يترجل” أمام عدوه وهو قريب منه في الساحات.
ما الذي أتى بك أيها الجندي “المغرر به” لتَقتل أو تُقتل على أرض ليس لك فيها حق ولا نصيب؟ وعلى المقتول ظلمًا واجب وله حق موعود، ” إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (التوبة 111).
يبقى الحديث الشريف عن أهلنا المرابطين في فلسطين أحسن دليل شرعي لهم على الأفضلية، وأي دليل على ذلك خير من شهادة إلهية، تواترت الروايات على نقلها بطرق مختلفة فيها زيادات، منها ما رواه الإمام أحمد في “مسنده”، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ قَالَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”… فأمام الأمة اليوم مرآة صافية، يرون فيها أعمالهم، ويقومون بها مواقفهم، ويحددون وفقها سياساتهم… وقد كشف النزال في “طوفان الأقصى” ذلك الأمر كله وبينه، “وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم، ورسوله، والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئكم بما كنتم تعملون”.
بالقياس مع ما يجب أن يفعل، أو بالمقارنة مع ما فعلت بعض الدول اللاتينية من تشنيع ومحاكمة وقطع علاقات مع الصهاينة، تأتي الخطوة التركية بقطع العلاقات التجارية مع الكيان متواضعة، وتحتاج إلى خطوات تصعيدية كثيرة، سلمية وعسكرية، ولا مجال للتفكير في موازين الربح والخسارة المادية ساعتها، الله يعوض المجاهدين بأموالهم وأنفسهم أضعافا مضاعفة. ولكن أين أهل الحرمين من كل هذا؟ وهل حقا النشامى في الأردن لا يستطيعون تقديم ما يلزم لإخوتهم في الجوار الملاصق؟ ألا يمتلك الأردن أوراقا كثيرة يمكن أن يقلب بها الطاولة؟ هل الملكية أهم أم الإنسان والشرف والمقدسات؟
الثروات الأحفورية نعمة من الله بيد مالكها، سلطه عليها لينظر كيف هو فاعل بها، فلا يغترن مالكها إن كان له متسع في صرفها هنا أو هناك. يتنعم بهذه الثروات الأجانب، وتوضع بين أيديهم ليعزز موقفهم في الحرب مع الروس، ولكن لم لا يكون الغاز وسيلة سياسية للضغط على داعمي الكيان، أو لتوطيد العلاقات البينية مع الأشقاء، بدلًا من أن يكون مادة اقتصادية فحسب، يستغلها البعيد في صراعه السياسي، ويحرم منها القريب في صنع خبزه اليومي؟
أهلنا في المملكة المغربية كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولو أنهم مرنوا سياسيًا وأخلوا لأشقائهم الجزائريين بعض المجالات، وطاوعوهم في خيمة الاتحاد على المصالح المشتركة، ومنها إسناد أهلنا في غزة، ولم يستقووا على جيرانهم بالأعداء الصهاينة_ لخففوا كثيرًا من الاحتقان في مغرب الأمة، ولربما جرت الخيرات بين المغاربة كلهم كما كانت تجري في التاريخ، متاجرة ومدارسة ومصاهرة وسياحة، فهم شعب واحد شتتته الأهواء والأطماع، في زمن يتوحد فيه الغرب ويسلح ويتطلع لاستعمار جديد.
يجني النظام السوري حصاد عقود من الزمن عطل فيها الواجبات وأذل فيها الناس، وارتد فيها عن تاريخ الشام. يشاركه في العبث بمصير البلاد حلفاء استقدمهم لينقذوه وقد فعلوا، فلم يشغل نفسه بفلسطين؟ دعها لأهلها، ودع الحلفاء يقبضون الأثمان، فما عادت العنتريات القومية اليوم لها سوق.
لا يستطيع النظام السوري فعل أي شيء يضر بمصالح الإيرانيين الآن، وإلا كان مصيره كمصير عبد الله صالح. التحالف بين نظام طائفي متعصب ونظام علماني مستبد، ليس تحالفا قويًا ممتدًا، وسينهار يومًا ما لبون الاختلاف بينهما.. ناهيكم أن البيئة الشعبية السنية والمعارضة المسلحة قوتان نابذتان لهذا العنصر الدخيل شكلًا ومضمونًا، وبناء عليه يجد أعداء الأمة من الصهاينة والغرب مجالا خصيبا لتنفيذ مخططاتهم كلما واتتهم الفرصة لذلك.
سياسة الولايات المتحدة هي الإمساك بملفات تكون وسيلة للابتزاز والتطويع في كل مكان بالعالم، إنها سياسة ترويض الخيول البرية التي يتقنها أسلافهم. ولكن للأسد ونظامه نقاط ضعف أخرى، تعرفها المعارضة المؤمنة بالله حقا، والأيام بين الناس دول. “إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين”.
وماذا عن السياسة المصرية المتخاذلة؟ أليس الجيش المصري الأقوى إفريقيا؟ ثم ما الضير لو تدفق أهلنا الفلسطينيون على أهلنا المصريين والأردنيين، وبدأ الإعداد لجيش الفاتحين من الجبهتين؟ لقد قدمت تونس والمغرب للجزائر ملاذًا ومعسكرات كانت منطلقًا للمقاومة، وبقي ذلك جميلًا لا ينكر في انتصار الثورة التحريرية.
اليمين واليسار العربيين، سياسيوه ومثقفوه وإعلاميوه.. تلزمهم مراجعة لمسيرتهم النضالية، أحسبهم في غفلة عنها، أو أنهم راضون بما قدموا، أو أنهم لا يشعرون بمسؤولياتهم عما آلت إليه أوضاعنا التي ساهموا في تشكيلها، منذ أن استقلت الدول العربية ولحقت رهاناتها بالكتلة الغربية أو بالكتلة الشرقية.
(*) كاتب جزائري
ماجستير في الدراسات الإسلامية والمسيحية.