اليهود رحى التطبيع والأحزاب
كان اليهود هم رحى جمع الأحزاب ومعركة استئصال مشروع النبوة في مرحلة الخندق ومرحلة علو الإفساد الأول اليهودي، وصنعوا الفخاخ والألاعيب والمؤامرات لتصفية مشروع النبوة، فكان أول مشاريعهم مع الأحزاب والعرب وقريش «إستراتيجية التطبيع» بالاستعانة بأهل مكة، لمعرفتهم بعداوة قريش للمسلمين، ووجود غباء داخل قريش، ومرض عربي قومي حسود حقود يمكن استغلاله، فضلاً انتظارهم لأي فرصة للقضاء عليهم، بالإضافة للإمكانات العسكرية لديهم، وعلاقتهم الواسعة مع القبائل من حولهم.
اتجه وفدٌ من اليهود بقيادة بني قريظة إلى مكة، وكان منهم حييّ بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو عمّار الوائلي، وكان هذا مؤتمراً تطبيعياً بين مؤسسة العرب واليهود، شبيه بمؤتمرات وقمم المنامة والعقبة والنقب التطبيعية بين الأنظمة العربية المطبعة والكيان الصهيوني.
هذا الوفد حرّض قريشاً على مهاجمة المسلمين وقتال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ووعدهم إن خرجوا للقتال سيساندونهم وينصرونهم، ومن مكرهم معرفتهم بالنفسية القريشية الراغبة في المدح وحب الرئاسة والجاه الذي كسره مشروع النبوة، فبالغوا في مدح قريش وجاملوهم، فشهدوا لهم بأنَّهم على حق وهدى بالرغم من علمهم بما عليه قريش من شرك وضلال، فأنزل الله تعالى فيهم قوله: (ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) (النساء: 51)، فوافق ذلك هوى أهل مكة ووعدوهم بالعودة لقتال النبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك بعد الوعد الذي قطعوه في «أُحد».
من الاختراق المادي إلى الاختراق المرضي
فشلوا في اختراق الأرض المادية الطينية؛ وهي المدينة والدولة وخندقها، فسعوا إلى التفكير في اختراق الأرض النفسية الروحية؛ وهي نفسية المسلم والمؤمن في المدينة لإضعاف روحه المعنوية أمام النبوة وتوصيات المجاهدين، وكانت البوابة للاختراق النفسي «مؤسسة المنافقين»، لكن بعملية وإستراتيجية تطبيع كامل مع مؤسسة اليهود؛ توجيهاً وتنسيقاً، لاختراق نفسية وعقل المجتمع الإسلامي وجيشه.
تحزبت الأحزاب واجتمعت الجموع التي لا قبل لأحد بها، وطوقت المدينة من كل جهة من أجل تصفية طوفان العدنان صلى الله عليه وسلم، وهو طوفان الدعوة الذي تحول إلى دعوة في دولة ومدينة عظيمة اسمها المدينة المنورة، مركز السياسة والعدل وإدارة الدولة الإسلامية، اجتمعت مؤسسة اليهود رفقة مؤسسة الاستبداد العربي القريشي، ومؤسسة المنافقين تطبيعاً وتنسيقاً، في شكل ثلاثي لاختراق جسم هذا المركز الدولي، واختراق نفوس المجتمع الإسلامي ونفوس الصحابة رضي الله عنهم الذين بعثوا في الأمة روحاً وفكراً وعملاً، لتطهير الأرض من كل دنس وعبادة الله في سلام وأمان.
التطبيع حالة ثلاثية تكالبية بين الأطراف الثلاثة الحاقدة (اليهود المنافقون العرب) على مشروع التطهير والنبوة المكلف بتنزيل روح المسجد تربية بإيمان، وتوعية بفكر وعلم، وحركة بفعل وعمل، والمكلف بالتجمع الثلاثي المفسد وتنظيمه هي «مؤسسة اليهود» وأحبار اليهود والتوراة وخبراء التاريخ والتزييف والحصون والجدران، واليوم سيوظفون جهازاً خطيراً رغبة في تفكيك مجتمع المدينة والمجتمع الإسلامي إلى شتات وفوضى، خصوصاً بعد الفشل الثلاثي التطبيعي في تجاوز الخندق الأرضي المحصن الذي صنع بمعية النبوة وفكرة سلمان الفارسي رضي الله عنه.
لكن كيف سيوظف اليهودي العامل نفسية المنافق العربي المطبع ليصنع جهازاً يخترق صفوف المسلمين والمؤمنين لبث الذعر والدعايات والأكاذيب؟
المطبعون المنافقون وصفة المرض
اليهود كانوا أرباب علم وفكر وتاريخ وحتى خبراء في نفسية المجتمعات والإنسانية خصوصاً الخبيثة منها، ففقهت القوة اليهودية أن المنافقين فيهم صفة خبيثة شيطانية تخولهم الانضمام إلى مشروع استئصال منهاج النبوة، بل وكموظفين رسميين لتفكيك المجتمع الإسلامي، هذه الصفة هي «صفة المرض»، ويأتي الوحي ليحدد نوعية الصفة التي برزت في معركة الأحزاب خصوصاً، وظهر المرض بتجلياته (وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) (الأحزاب: 12)، لنرصد أن الروح اليهودية وجدت في المنافق مرضاً لا بد من تصعيد فعله ونتيجته في الأرض، وتحويل المرض النفسي إلى مشروع في الأرض، يعم الدولة الإسلامية، لنشر عدوى النفاق وإحباط الضعفاء وتفكيك صفوف الأقوياء من الأمة.
المرض هو حقد داخلي ضد الإسلام والقوة الإسلامية الجهادية، المرض هو حسد من أنفسهم وبغض تَحَوّل إلى نفاق وسقم احتاج إلى روح يهودية تتقمص نفسية المنافقين المرضى، فالتقى الخبير الطبيب اليهودي بالمريض المنافق العربي وطبع معه، واخترقت الروح اليهودية هذه النفسية العربية المريضة وحولت المرض النفاقي إلى فعل أرضي انتقامي، فكانت النتيجة وجود موظفين رسميين في معركة الوجود.
هي إذن معركة الأرواح، معركة بين الروح اليهودية التي تتقمص الأجسام المريضة لتطبع معها، وبين روح المسجد التي تدخل في قلوب المؤمنين فتحولهم إلى رجال البركة والنور والتحرير.
التطبيع الانتقامي!
كان البعض يظن بأن التطبيع عملية تطبيع سياسي أو دبلوماسي رسمي بين كيان ودولة عربية ليحصل الاحتلال على اعتراف بكيانه وتحقيق التعايش والسلام كما يسمونه، هذا المفهوم للتطبيع كان مرحلة «كامب ديفيد» و«أوسلو»، حين كان الكيان الصهيوني يحتاج فحسب إلى اعتراف عربي بعد حروب النكبة وحروب سيناء والجولان، لكن التطبيع بعد صفقة القرن شيء آخر، ظهر الهدف الحقيقي الأول من التطبيع وهو تفتيت الشعوب العربية والإسلامية وتقسيمها وإضعافها تمهيداً لشيء خبيث في فلسطين تسعى له قوات التطرف الصهيوني.
بعد «سيف القدس»، فشلت «صفقة القرن» وظهرت قوة الشعوب الرافضة للصهيونية والتطبيع، وجاءت «طوفان الأقصى» وأسقطت شعارات التعايش والسلام والتطبيع وخرج التطرف الصهيوني بثقله لاختصار المعركة في غزة والضفة دون الاستعانة بإستراتيجية التطبيع وهي دعم من العرب والأنظمة لتصفية المقاومة والشعب الفلسطيني.
في الوقت نفسه، وفي بلاد الشعوب العربية والإسلامية، خرجت الصهيونية التي طبعت مع الحكام والأنظمة لتنتقل من التطبيع وفق اتفاقيات رسمية اقتصادية أو عسكرية أو سياسية أو رياضية أو فنية إلى تطبيع انتقام، نعني به انتقاماً من الشعب بشكل مباشر، وهو ما رصدناه في بعض الدول العربية التي صنعت منصات تفاهة وبرامج تمييع الشباب رغم ما يحدث في غزة من إبادة جماعية، بل تصاعد الفساد من خلال إعلان مباشر، أمام الإعلام والقنوات عن طقوس صهيونية تعبدية، وسط مدن عربية تغمرها المدارس القرآنية والجامعات والمساجد.
لكن السؤال هنا: ما السبب في هذا التحول للصهاينة المطبعين في بعض الدول العربية؟