الإسلام دين الهمة العالية والتنافس على الخير وفيه، والمسلم تواق للعلا ولكل مكرمة، وكل ما فيه خير لنفسه ولغيره تجده سباقاً إليها.
يقول ابن القيم في تعريف الهمة: والهمة فعلة من الهم، وهو مبدأ الإرادة، ولكن خصوها بنهاية الإرادة، فالهم مبدؤها، والهمة نهايتها(1).
وأما الهمة اصطلاحاً فهي: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق لحصول الكمال له أو لغيره(2).
ورغب القرآن الكريم والسُّنة المطهرة في علو الهمة، ودفعا المسلم لمعالي الأمور خاصة أن الإنسان جُبل على حب التنافس مع غيره، فليكن التنافس على خيري الدنيا والآخرة، فيقول تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 133).
وفي السُّنة النبوية الكثير من الأحاديث التي تدعو للمعالي، فعن حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله» (رواه البخاري، ومسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز» (رواه مسلم)، ويقول صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا» (رواه البخاري، ومسلم).
صور من علو الهمة
– في العبادة:
يتجلى علو الهمة في العبادة عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو حبيب الله عز وجل، وهو سيد الأنبياء والمرسلين، وهو أول من يدخل الجنة، ومع هذا فقد كان أكثر الخلق عبادة لله عز وجل، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!» (متفق عليه)، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالَ حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ قَالَ: قِيلَ: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ. (متفق عليه).
– مع كتاب الله تعالى:
وفي ختم القرآن يتنافس الصحابة عند حبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قلتُ: يا رسولَ اللهِ، في كم أقرأُ القرآنَ؟ قال: «اقرأهُ في كلِّ شهرٍ»، قال: إني أقوَى على أكثرَ من ذلك قال: «اقرأهُ في خمسٍ وعشرينَ»، قلتُ: إني أقوَى على أكثرَ من ذلك، قال: «اقرأهُ في عشرينَ»، قال: قلتُ: إني أقوَى على أكثرَ من ذلك، قال: «اقرأهُ في خمسِ عشرةَ»، قال: قلتُ: إني أقوَى على أكثرَ من ذلك، قال: «اقرأهُ في سبعٍ»، قال: قلتُ: إني أقوَى على أكثرَ من ذلك، قال: «لم يفقهْ من قرأَ القرآنَ في أقلِّ من ثلاثٍ» (رواه أحمد، والألباني).
– في تحصيل العلم:
رفع الله عز وجل قدر أهل العلم، فقال سبحانه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة: 11)، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ»(3)، وقد تنافس السلف الصالح في طلب العلم حتى إن أحدهم كان يختزل وقت الطعام والشراب كيلا يعطله عن تحصيل العلم، وقد سألوا الخليل بن أحمد الفراهيدي: ما أثقل الساعات عليك؟ قال: ساعة آكل فيها.
وكان داود الطائي يشرب الفتيت ولا يأكل الخبز، فقيل له في ذلك فقال: بَيْنَ مَضْغِ الْخُبْزِ وَشُرْبِ الْفَتِيتِ قِرَاءَةُ خَمْسِينَ آيَةً(4).
وقال صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل اللهُ له طريقًا إلى الجنةِ، وإنَّ الملائكةَ لَتضعُ أجنحتَها لطالبِ العلمِ رضًا بما يصنعُ، وإنَّ العالمَ لَيستغفرُ له مَن في السماواتِ ومن في الأرضِ، حتى الحيتانُ في الماءِ، وفضلُ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ على سائرِ الكواكبِ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلمَ، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ»(5).
– في الجهاد:
الصحابة كانوا حريصين على الموت في سبيل الله، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ «أُحُدٍ» وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ.
قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ؟ قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. (البخاري ومسلم).
– عند الصبيان والغلمان:
كان للتربية على الجهاد أثر بالغ في تحبيب الغلمان والصبيان في علو الهمة، فعن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص -قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، للخروج إلى «بدر»- يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي؟ فقال: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردني وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة، قال فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستصغره فقال: «ارجع»، فبكى عمير فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فكنت أعقد له حمائل سيفه من صغره فقتل بـ«بدر» وهو بن ست عشرة سنة، قتله عمرو بن عبد ود(6).
– في الإنفاق:
كان ديدن الصحابة التنافس في كل مكرمة وفضيلة، ومنها الإنفاق والكرم والسخاء سراً وجهراً، وكان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه السبق دوماً فيها رغم محاولات الصحابة في البذل والعطاء غير المشروط.
فعندما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحابته أن يتصدقوا، يقول عمر: ووافق ذلك عندي مالاً فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، فجئته بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟»، قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟»، فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، عندئذ قال عمر: لا أسبقه إلى شيء أبداً. (رواه الترمذي).
_____________________
(1) مدارج السالكين (3/ 5).
(2) التعريفات للجرجاني، ص 257.
(3) الترغيب والترهيب (1/ 73)، من حديث أبي الدرداء.
(4) كتاب المجالسة وجواهر العلم.
(5) صحيح الترغيب (70)، من حديث أبي الدرداء.
(6) الطبقات الكبرى لابن سعد.