امتازت الأسرة السودانية على مر التاريخ بالتماسك الاجتماعي، حيث تعتبر مساندة الفرد لبقية الأسرة من المقدسات التي تجلب له العار حال انتهاكها، وتتوافق تلك الثقافة مع موروثات القبيلة التي تحكم السلوك الاجتماعي للسودانيين، حيث يظهر الانتماء الأسري والعائلي والقبلي في سياق تفاخر واستقواء وتلاحم فريد.
ولكن حرب التمرد على الجيش السوداني التي دخلتها «قوات الدعم السريع» بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في 15 أبريل 2023م، فتَّتت الأسرة السودانية، وشتَّتت أفرادها بين مقيم بالسودان يقاتل «الدعم» دفاعاً عن وطنه، ونازح في الولايات الأخرى، أو هارب في دول الشتات كلاجئ بعد أن ضاقت به أرض السودان الكبرى.
وداهمت الانقطاعات المتتالية والمتعمدة لشركات الاتصالات في إلقاء مزيد من العبء النفسي على أفراد هذه الأسر التي فشلت في التواصل ما بين أرض المعركة وأرض النزوح أو اللجوء في دول الجوار.
نزوح 9 ملايين سوداني داخل البلاد.. ومليونا لاجئ فروا إلى دول الجوار
وهكذا، رسمت الحرب صورة قاتمة لتلك الأسر، فهناك 9 ملايين من أبناء الشعب السوداني تحولوا إلى نازحين داخل البلاد، إضافة إلى مليوني لاجئ فروا إلى دول الجوار، وبسبب النزوح المتعدد للأسر السودانية من الولايات التي تدخلها الحرب إلى الولايات الآمنة، فقَدَت تلك الأسر بيوتها، وممتلكاتها، وبعضاً من أفرادها قتلى بطلقات الرصاص، أو موتى بسبب الأوبئة المنتشرة على طرق النزوح واللجوء.
وهناك آلاف الأسر التي تحركت من الخرطوم إلى ولاية الجزيرة، ومنها إلى ولاية سنار، ثم حط بها الرحال في ولاية القضارف بالشرق بعد أن فقدت كل متاعها وتحولت من فئات ميسورة الحال إلى مجرد نازحين يبحثون عن دعم لا يأتي من منظمات الإغاثة الدولية.
رحلة الهروب
وفقاً لشهادات حية من الأسر السودانية التي شاء حظها السيئ أن تكون ضمن ضحايا حرب التمرد على الدولة والجيش، ذكر أفراد هذه الأسر على صفحات التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية الجزء اليسير من معاناة الهروب التي قاسوها من ديارهم إلى معسكرات اللجوء في دول الجوار.
وقد اتفقوا جميعاً على سياقات متقاربة لرواية الهروب، حيث تعرضت منازلهم للهجوم، والنهب، والضرب، وأحياناً قتل بعض الشباب، وعندما حاولوا الخروج تلقفتهم أيدي اللصوص على الطرق يحاولون نزع ما تبقى من أموال أو مصوغات بأيدي النساء.
تعرُّض المنازل للهجوم والنهب وضرب الأسر وأحياناً قتل بعض الشباب
وفقدوا في الطريق من كان مريضاً لعدم وجود الدواء، وأطفالاً لم يحتملوا الجوع، ونساءً متن حزناً وكمداً بعد اغتصابهن على أيدي تلك المجموعات المجرمة، هذا بالإضافة إلى الأمراض الفتاكة مثل الكوليرا وحمى الضنك والملاريا وسوء التغذية، كما قتل عدد من الأسر بلدغات الثعابين والعقارب في الطريق إلى تشاد أو إثيوبيا أو جنوب السودان أو أفريقيا الوسطى.
ويحكي محمد عثمان، في القاهرة، كيف أن زوجته كانت في مهمة عمل بلندن قبيل الحرب مباشرة ولم تستطع العودة إلى بلادها، وهي الآن عالقة في السعودية عند ابنها الذي يدرس هناك لا تستطيع اللحاق به في مصر، بينما لجأ اثنان من إخوته وأمه إلى جنوب السودان بعد أن نزحوا من منزلهم بوسط الخرطوم إلى ولاية الجزيرة، وعند دخول «قوات الدعم السريع» الولاية هربوا إلى جنوب السودان، فيما فقدت الأسرة والد محمد عثمان أثناء عملية الهروب وبعد فشل الأطباء في علاجه أنه لم يستطع الحصول على أدوية السكر والضغط والقلب عندما لجأ إلى دولة جنوب السودان.
ولم تتوقف معاناة الأسر السودانية عند هذا الحد، ولكنها تفاجأت بنقص مواد الإغاثة التي اعترف المتحدث باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين يوان واتسون، بأن مفوضيته والمنظمات الأخرى لم تتلقَّ حتى الآن أكثر من 19% من احتياجات اللاجئين بمختلف دول اللجوء، كما أن النقص الشديد في الأدوية يهدد أرواح جميع من أصيبوا بالأمراض الوبائية خاصة بعد هطل أمطار وفيضانات الخريف بشكل غزير منذ يونيو الماضي، وهو ما ضاعف من عدد الحشرات الناقلة للوبائيات.
ووفقاً لتقارير منظمات الإغاثة الدولية، فإن الحق في التعليم للأسرة السودانية لم يعد ممكناً لمعظم أطفال وطلاب السودان في الخارج؛ لضعف البنية الأساسية في دول اللجوء، وباستثناء مصر فإن جميع هذه الدول تفتقر لكفاية البنية الأساسية للتعليم لشعوبها في الأصل.
استقبلت مصر وإثيوبيا وتشاد وجنوب السودان العدد الأكبر من الأسر السودانية
وأظهرت أزمة لاجئي معسكري «أولالا» و«كومر» بإثيوبيا حجم المعاناة المذهلة التي تعاني منها الأسر السودانية في الشتات، حيث طالب منسقو اللاجئين بإخراجهم من المعسكر بعد سيطرة المليشيات المسلحة، وتحويله إلى ميدان قتال عنيف، ولكن السلطات رفضت فهربوا جميعهم، وعددهم 6 آلاف إلى الغابات، حيث تحاصرهم الوحوش والحشرات والجوع والحصار الذي فرضته عليهم قوات الجيش الإثيوبي لإجبارهم للعودة إلى المعسكرات، وظلت هذه الأزمة القاتلة تحاصر أرواح أبناء السودان منذ الأول من مايو الماضي، وحتى كتابة هذه السطور.
خارطة توزيع اللاجئين
لم تخلُ دولة واحدة من دول جوار السودان من عملية لجوء موسعة للأسر السودانية هرباً من الحرب، ونجاة بالنفس من الموات.
واستقبلت مصر وإثيوبيا وتشاد وجنوب السودان العدد الأكبر من الأسر السودانية التي تم استقبالها في معسكرات للجوء في جميع هذه الدول، ما عدا مصر التي رفضت إقامة معسكرات للشعب السوداني كما فعلت مع أبناء الشعب السوري من قبل، واندمج السودانيون داخل المجتمع المصري في مساكنهم وشوارعهم وأزقتهم وحاراتهم دون أن يجمعهم معسكر أو مخيم للجوء.
وأضافت مفوضية اللاجئين دولتي ليبيا وأوغندا هذا الشهر إلى دول الجوار السوداني التي فر إليها أبناء الشعب السوداني، حيث فر إلى أوغندا في يونيو الماضي فقط 27 ألف لاجئ، يضافون إلى 12 ألف لاجئ منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023م، كما دخل شرق ليبيا خلال الشهور القليلة الماضية 20 ألف لاجئ.
منظمات الإغاثة لم تتلقَّ أكثر من 19% من احتياجات اللاجئين بمختلف دول اللجوء
ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة، فقد استقبلت معسكرات اللجوء في دولة جنوب السودان 150 ألف سوداني، إضافة إلى عودة 550 ألف جنوبي من السودان إلى بلادهم، وأفادت سلطات جنوب السودان بأن أعداد اللاجئين إليها في تزايد مستمر؛ حيث يصل إلى المنافذ الحدودية يومياً ألف لاجئ سوداني؛ وهو ما يهدد بعدم قدرة تلك الدولة الهشة اقتصادياً على استقبال هذه الأعداد الكبيرة.
ومن أكبر دول الجوار التي استقبلت وتستقبل الفارين من الحرب تشاد، التي تستضيف نحو 600 ألف لاجئ سوداني، غالبيتهم العظمى فروا من ولايات دارفور الخمس التي تسيطر «الدعم السريع» الآن على أربع منها، ويتركز معظم هؤلاء في مدينة أدري التشادية التي لجأ إليها معظم أبناء القبائل الأفريقية في إقليم دارفور وخاصة قبيلة المساليت التي أبيد منها 15 ألف مواطن بأيدي «الدعم السريع».
وسجلت البيانات الرسمية في مصر دخول أكثر من 400 ألف سوداني بطرق رسمية، بخلاف عشرات الآلاف الذين دخلوا البلاد بطرق غير شريعة، وعلى الرغم من إصدار القيادة السياسية تعليمات بتمتع السودانيين بنفس الحقوق والمزايا التي يتمتع بها المصريون، حيث رفضت السلطات إقامة معسكرات لجوء لهم أسوة باللاجئين السوريين، فإن معاناة الأسرة تظل قائمة لعدم وجود فرص عمل، وقلة اهتمام المنظمات الدولية بهؤلاء اللاجئين.