في ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، يتذاكر المسلمون دروسًا وعبرًا، على رأسها قضية أخوة الدين، التي تبدو الحاجة ملحّة لا لتذاكرها نظريًّا بوصفها قاعدة دينية فحسب، بل لاستحياء تطبيقها ولو بدافع الواجب إن لم يكن طواعية، ونعم، نصرة المسلم للمسلم واجب لا تفضّل، وهي حق الله تعالى على عباده المؤمنين، وحق المؤمنين الذي جعله تعالى لبعضهم تجاه بعض.
فيقول الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، وقوله تعالى: (وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ فَعَلَیۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ) (الأنفال: 72).
وتأمل في قول المهاجرين عن حسن نصرة إخوانهم من الأنصار: قَالَ الْمُهَاجِرُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ وَلَا أَحْسَنَ بَذْلًا فِي كَثِيرٍ لَقَدْ كَفَوْنَا الْمَئُونَةَ وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأ حَتَّى لَقَدْ حَسِبْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ! قَالَ: «لَا، مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ وَدَعَوْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ»(1)، وَالْمُواسَاةُ: الْمُشَارَكَةُ وَالْمُسَاهَمَةُ فِي الْمَعَاشِ وَالرِّزْقِ، فالمواسي يرتضي لنفسه أن يكون وصاحبه سواء في الحال.
وفي مثل هذه المواقف إشارة إلى أن النصرة الحقة تعني العطف على التعاطف؛ أي اتباع الشعور المعنوي بإجراء فعلي يرفع عن المحتاج أو المبتلى بعض ما يجده، ويعود عليه بنفع حقيقي! لنقل: إن شخصًا مُعافى مرّ في مستشفى بمريض طريح الفراش طلب منه شَرْبة ماء، لكن المعافى عوضًا عن أن يجلبها له أخذته الشفقة بحاله والوجع البادي على محياه فجلس إلى جواره يبكي! إذا نظرنا لذلك الموقف من منظور التعاطف، فلعل زوايا الفهم والتقدير تختلف، كأن يقال: إن مشاطرة الحزن على الألم فيه نوع من الدعم العاطفي، وغير ذلك من فلسفات، لكن الجواب يكون أوضح إذا نظرنا من منظور المنفعة التي يحددها عاملان: حاجة المحتاج واستطاعة الملبي؛ ثم سألنا: هل كان ذلك المعافى نافعًا حقيقة للمريض في بلواه؟ فما كان يحتاجه المريض في تلك اللحظة من المعافى هو شربة ماء، وكان ذلك المعافى قادرًا على إحضارها، لكنه عوضًا عن تلبية حاجة المحتاج على الوجه الذي يحتاجه، انشغل بتلبية شعوره هو!
وبناء عليه، فتصرّف المعافى غير محمود في جوهره، وإن تلبّس ظاهرًا بلباس شعور إنساني مرهف أو نبيل كالتعاطف والشفقة والتأثر وما شابه.
وهذا أول ما يجب أن نفهمه عن مجموعة العواطف التي نصنفها إجمالًا على أنها نبيلة، أي غيرية ومتجردة من حظ النفس، فالحق أنه لا شعور إنساني متجرد من حظ النفس، ولا يمكن تحقيق التجرد إلا بالتصور الإسلامي لمعنى الإخلاص لله تعالى، وهذا تحقيقه عزيز، وليس هو محل الكلام في هذا المقام، وإنما المقصود هنا أننا يمكن أن نغرق أنفسنا في أحوال نفسية وشعورية غير نافعة لنا ولغيرنا وتعوقنا عن تحقيق النفع الذي يحتاجه الغير على الحقيقة، لكنها تتخذ مظاهر غيرية أو نبيلة فترفع عنا الشعور بالذنب أو التقصير أو حتى التفكير في القيام بإجراء ما، فأنا منشغل بالتعاطف بالدموع والحزن مع مرض المريض الذي لا أقدر على معافاته منه عوضًا عن إمداده بطلب أقدر عليه، ومنشغل بالتفكير في الأيام التي سيظل فيها عطشًا ينتظر من يمر ليسقيه كما فعلت أنا صدفة، ومنشغل بالغضب من أهله المفرطين في حقه أو العالم الشرير المليء بالابتلاءات والأمراض أو التقدير الإلهي الذي يطرح مبتلاه في الفراش.. إلخ.
وليس بدعًا أنك لا تجد مفهوم التعاطف ورد على هذه الشاكلة في مختلف أدبيات العربية والشريعة، بقدر ما تجدها في مستوردات الثقافات الأجنبية خاصة التنمية البشرية ومهارات العلاقات.
صحيح أن جذرها عربي، في مادة «عَطَفَ»، ومعانيه تؤدي جزءًا من المعنى الذي تنطوي عليه اللفظة الأجنبية، فإنك تجد الذائع في معجم العربية والشرع، الغوث، والنجدة والنُّصرة، وشد الأزر، والتعاون، وهي كلها ألفاظ تحمل دلالة إجراء؛ أي عَطْفَ سلوك على الشعور، لا الإغراق في المساحة الشعورية بذاتها على نحو ما يدلّ التعاطف وفق المفهوم المستورد.
ومن معاني العطف في اللغة: الرجوع على شخص بما يكره أو الرجوع له بما يريد، فالمتعاطف الصادق يعطف على المعطوف عليه بما ينفعه حقيقة، ويُتْبِع شعوره بإجراء سلوكي.
وإن البنية الإنسانية غير مهيئة لتتخذ الغم أو اللهو بذاتيهما عملًا، وبالتالي يضرّ المُغرِق فيهما نفسه من حيث يحسب أنه يُنَفِّس عنها! والأدهى أنه يصل بعد مرحلة للتبلّد الشعوري بحكم اعتياده اتخاذ الإغراق في الحالة الوجدانية عملًا، وإنما القصد من الغم والحزن أن تدفع صاحبها لإجراء وتشحذ همّته لنصرة المبتلى والتخفيف عنه، لا أن يتخذ الحالة بذاتها عملًا فتُقعِده عن كل نفع لنفسه وغيره!
فاحرص على ما ينفعك وإخوانك، ولا تنجرف وراء هوى ما تريد أو ما تشعر والسلام، فانتبه للأنانية الكامنة في الإصرار العنيد على معايشة شعور أو حالة وجدانية تجاوزت قدر التنفيس الطبيعي والمشترك الإنساني السوي لتصير هي بذاتها شغلك الشاغل، فتتخذ الحزن والبكاء والاغتمام والعويل عملًا، هذا لا ينفعك ولا ينفع من تتقمص هذه الحالة الوجدانية باسمه!
وإنما النافع في هذا المقام أن تنظر لنفسك ماذا قدمت لها من نفع في الدار الباقية، وتنظر لمن يهمك أمرهم فانفعهم بجدية بما تستطيع حقيقة، خير النصرة لأخيك أن تنفعه هو لا أن تُغرق في التنفيس عن نفسك أنت، فعندما تريد نفع غيرك، فكر فيما يحتاجه ذلك الغير منك لا فيما تريده له، وانشغل بما ينفعه مما تستطيعه دون تكلّف ما يجهدك فتُثْقِل عليه المنَّة.
ورضي الله تعالى عن أصحاب سيدنا المصطفى عليه الصلاة والسلام، إذ تأدبوا خير أدب بتوجيهه عليه الصلاة والسلام، حتى كانوا يرون ألا حق لأحد منهم في أن يكون له فضل، أي زيادة في مال أو نعمة بينما أخوه لا يملك شيئًا، ولا حق له أن يمنّ بعطفه ذلك الفضل على أخيه، إذ الملك كله لله.
فعن أبي سعيد الخدري: بيْنَما نَحْنُ في سَفَرٍ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إذْ جَاءَ رَجُلٌ علَى رَاحِلَةٍ له، قالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «مَن كانَ معهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا ظَهْرَ له، وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زَادٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا زَادَ له»، قالَ: فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ ما ذَكَرَ، حتَّى رَأَيْنَا أنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ(2).
______________________
(1) مسند أحمد، مسند النساء مسند الصديقة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها (24864).
(2) صحيح مسلم: كتاب اللقطة، باب استحباب المؤاساة بفضول المال (4517).