منير القاضي
القرآن الكريم كتاب أُحْكِمَت آياته، ثم فُصِّلَت من لدن عزيز حكيم، نزلَ بلسان عربي مبين، هدى للناس، نَعَم، إنه يهدي الناس إلى طريقين؛ طريق الدّين المستقيم، وهو الغرض الأول من نزوله، وطريق الأدب العالي الرفيع، والبيان الجليّ القويم، وهو الغرض الثاني من نعمة حصوله.
وهو بطريقه الأوّل أنشأ دِينًا حكيمًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، اقتلع جذور الشِّرْك من الشرق الأدنى والشرق الأوسط وطرف من الشّرق الأقصى، ولوَّح بنوره في الأقطار الأخرى، فلم يَقْوَ ذلك الشِّرْك المزمِن الذي كَلْكَلَ على الشرق بجِرانه على مصاولة دين التوحيد الصحيح القويّ الأساس العزيز الحجة الواضح المحجة، فاستبدلت الأمم التوحيد بالشِّرْك، والأُخُوّة بالبغضاء، والتناصر بالتناحر، والتآزر بالشِّقاق، والمجتمع الصالح بالمجتمع الفاسد، وأبدع علومًا صقلَت العقول، وأيقظتها من سبات عميق طويل، وكشف عن النفوس الأغطية الكثيفة حتى أصبحَتْ حديدة الأبصار، لامعة البصائر، فعرفَتْ ذواتها، وعلمَتْ أنها أفضل المخلوقات، وأنها سواء فيما بينها، فتحرّرتْ من عبادة الأحجار والحيوانات والأشخاص، وأخذَتْ تبحث في سموّها، والطهارة من أدرانها، والتحلّل من أوزارها؛ والعقول إذا انتبهت فلا حَدّ لمدى سَيْرها، ولا نهاية لعمقها وغورها، وأحدَثَ نظامَ المساواة بين الناس، وقرّر احترام الإنسانية وحقوق البشر، ووضع لهم دستورًا صالحًا في معاملاتهم فيما بينهم، فالمظلوم منصور، والظالم مقهور، والله الحاكم العادل.
هذا مجمل مما أدّى إليه طريقه الأول، ونبحث هنا أسلوب القرآن مما يدخل في عموم الطريق الثاني.
الطريق الثاني: الأدب العالي الرفيع، وقد هَدَى إلى ذلك بأسلوبه، ومفردات ألفاظه، وإنّا لباحثون أسلوب القرآن الكريم بما استطعنا من إيجاز.
أسلوب القرآن الكريم
ينقسم كلام العرب إلى منظوم ومنثور؛ فالمنظوم ما طُبِع على أوزان خاصّة محدودة وصُبّ في قوالب معيّنة، ولا يتجاوز المعروف من تلك الأوزان ستة عشر وزنًا تُسمى بحور الشِّعر، والأَوْلَى أن تُسمى بحور النَّظْم، ولا تتعدّى تلك القوالب أعدادًا محسوبة لكلّ وزن من أولئك الأوزان، والمنثور ما لم يُقيّد بوزن، أو يُقْصَر على قالب، أو يُوسَم بطابع، فقد يأتي مسجعًا مقفّی يحاکي سجع الحمام المغني أو الباکي، وقد يَرِد مرسلًا کالسلسبيل العذب المطرد في مجاريه النضرة، المنساب إلى النفوس سائغًا فراتًا، وقد يجيء مزيجًا من النوعين، يقف تارة مغردًا أو باكيًا بلا تَعمُّل أو تكلّف، ويجري أخرى صافيًا مطلقًا كالزلال العذب، أو النسيم الطلق، وهكذا يتلوّن ويتقلّب فيروي النفوس الظمأی ريًّا، وينعش الأرواح إنعاشًا.
وإن كنت في شكّ من ذلك، فارجع بصرك إلى منثور الجاحظ وأبي حيان التوحيدي من المتقدِّمين، ومنثور المنفلوطي والرافعي وطه حسين من المتأخّرين، تجد الدليل واضحًا، والحجة قائمة.
والقرآن الكريم منثور له طابعه، وله أسلوبه، وله طريقته، لم يُعهد للعرب قبله أنْ جرَت في نثرها مجراه، أو سلكَتْ أسلوبًا يشاكل أسلوبه، أو يشابه سبيله، أو يشاكل طريقته، وإن كنتَ في ريب من ذلك فاستعرِض منظوم الجاهلية ومنثورها، واتلُ ما حُفظ من مقالات بلغائها وحكمائها وکهّانها وحلفائها ونسّاكها، يأتك اليقين راسخًا، وتسطع لك البيّنة واضحة.
إنه منثور عنوانه: «الآيات البيّنات والذّكر الحكيم»، واسمه القرآن الكريم، لا هو بالنثر الفني؛ لأنّ الفنّ الأدبي وقواعد اللسان العربي إنما حدثَت بعده، واستمدّت من ثروته الأدبية، واصطلح عليها بعد دهر من نزوله، ولا هو بالنَّثْر الدّارج بين أمة عصره، للاختلاف الواسع بينهما، من حيث مفرداته، وتراکيبه وصياغته، وبحثه، ومناظرته، واحتجاجه، ووضوحه، وجزالته، وفصاحته، وبلاغته، وبراعته، وسموّ مراميه، وحُسن قصصه، وقوّة مداخله، وسهولة مخارجه، وشريف مواضيعه، وبليغ حكمه، وعدالة أحكامه، وصرامة وعظه، ولطافة إرشاده، ومقارعته الحُجّة بالحُجّة، والدليل بالدليل، إلى أن يُفحم الخصم، فيرتدّ بصره وهو حسير، وتقف بصيرته كليلة خائرة، فيرفع راية التسليم، ومن حيث إعماله الأذهان، وكشفه السّجْف عن النفوس، وهتكه الحجب عن الأنظار، وإطلاق العقول من أسرها؛ (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص: 29).
وأسلوب القرآن الكريم تختلف طرقه باختلاف الموضوعات التي يطرقها والمرامي التي يستهدفها، فهنالك أسلوب واحد، وهنالك طرق مختلفة الاتجاه متّحدة الأسلوب.
أمّا أسلوبه الواحد فهو الركون إلى الوضوح في أداء المراد بألفاظ هي الدُّرَر المنتقاة من بحر اللغة، المختارة من بين أترابها من لسان العربية المبين، الواقعة في محلّها وقوع المُقَل في محاجرها، فلا يسدّ غيرها مسدّها، ولا يغني عنها غيرها، ونظمٍ هو السهل يعجز البليغ عن محاكاته وإن تخيل قدرته على ذلك؛ لما يراه من يسر المادة التي جاء بها، وظهور المعاني التي يحملها، ولألفة نسج التراكيب العربية التي ينسج على منوالها يرى ذلك سهلًا عليه، ولكنه إذا أعمل ذهنه، وسدّد سهمه، وأرهف قلمه ليأتي بمثله، تراجع القهقرى مقرًّا بالعجز، معترفًا بالتقصير.
(لو شئنا لقلنا مثل هذا)، ولكنهم لم يقولوا مثل هذا؛ إِذْ لم يستطيعوا ذلك، فلو استطاعوا، لقالوا، إلزامًا لخصمهم الذي تحداهم: (قل فأتوا بسورة من مثله)، وإفحامًا لمناظرهم الذي سَفّه أحلامهم، وقوّض خيامهم، وهَدَّ بنيانهم، وأمعن في تدميرهم وإبطال طارفهم وتليدهم، لو كانوا يستطيعون، لفعلوا، فكانوا هم الفائزين: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء: 88).
ولا يقتصر أسلوب القرآن الكريم على الوضوح، والبلاغة، والبراعة، وحسن البيان، وحسن الابتداء، وحسن الانتهاء، وتناسب الآيات وانسجامها في كلّ سورة حُسنًا لا يجارَی وتناسبًا لا يباری، ووضع الألفاظ في مواضعها، وإيقاع التراكيب في مواقعها، وإطلاق النّظْم منسجمًا مترابطًا سهلًا، تشتف الأذهان معانيه كما تشتف الأرض الممحلة الغيث الممرع، بل هناك سر آخر -هو سِرّ إعجازه- وهو شهادة الأذواق السليمة على سموّ نظمه بحيث تنقطع دونه معارج البلاغة، وتنحط عن بيانه شموس البراعة.
والأذواق السليمة هي فيصل التفرقة في الأدب بين الغثّ والسمين، والبدين والهزيل، والقوي والضعيف، والرخيص والثمين، إنّ الأذواق السليمة لتستبشر عند تذوّقها جلال إعجازه وفخامة إبداعه، وتستحلي رقّة بيانه ودقّة معانيه وقوّة أدائه، وتقول: هل من مزيد؟ مهما زودتها من آياته، وأتحفتها من سوره وبيانه، فاستشهد ذوقك، وهو خير الشاهدين، وإن كان المرء مريض الذّوْق فلينزّهه في حدائق البلغاء، وليداوه بهضم ثمارها حتى يعود سليمًا، ثم ليستشهده على ما أقول فسيجده من أصدق الشاهدين وأحكم الحاکمين.
وأمّا طرائقه فقِدَد؛ وكلّها في حدود البيان على خطّ واحد، وفي فلَك البلاغة على دائرة واحدة، هي أوسع الدوائر وأسماها، فله في المناظرة طريقة، وفي المحاورة طريقة، وفي القصص طريقة، وفي تمرير الأحكام طريقة، وفي التاريخ طريقة، وفي الوعظ طريقة، وهكذا في كلّ موضوع من موضوعاته.
__________________________
المصدر: مجلة «المجمع العلمي العراقي».