أمر الله تعالى بالحذر فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: 71)، وشرع ربنا صلاة الخوف من أجل الحذر، فإذا كان الجيش الإسلامي في مواجهة الأعداء فإنهم لا يتركون مواقعهم من أجل أداء الصلاة كما هي في الأحوال العادية، بل ينقسمون إلى فريقين كل فريق يصلي مع الإمام قدراً من الصلاة ثم ينصرف إلى مواجهة العدو، وبهذا لا يخلو الميدان من المجاهدين حتى لا يميل العدو على المؤمنين أثناء الصلاة، فقال تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء: 102).
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُلْدَغُ المؤمِنُ من جُحْرٍ مَرَّتيْنِ»؛ ومعناه أن المؤمن الذي تعرض للخطر مرة لا بد أن يحذر من الوقوع فيه مرة ثانية، كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذر فعلياً في شؤون حياتنا، ويدل على ذلك ما كان منه صلى الله عليه وسلم في الهجرة حيث ضرب مثالًا رائعاً في الحذر من أعدائه حين خطط لرحلة الهجرة سراً، وخرج مع صاحبه سراً، وخالف الطريق المعروف، وجنّد بعض أصحابه لتسيير الخطة على أفضل ما يكون من الحيطة والحذر حتى وصل إلى المدينة المنورة(1).
وإذا كان الله تعالى قد أمر بالحذر وفعله الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به، فإن الله تعالى أخبرنا أن الحذر صفة من صفات المؤمنين حيث قال عز وجل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (الإسراء: 57)، وقال عز وجل: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر: 9).
من أي شيء نحذر؟
أولاً: الحذر من الله تعالى ومخالفة أمره، فإن الله سبحانه خلق الإنسان وأمره بعبادته، فلا ينبغي للإنسان أن يخالف أمره أو يعصيه؛ لأن الله عز وجل حذر من ذلك فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) (البقرة: 235)، وقال: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران: 28).
ثانياً: الحذر من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أمرنا الله تعالى أن نطيع رسوله صلى الله عليه وسلم وألا نخالف أمره، حيث قال تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63)، وقد ابتلي المسلمون في غزوة «أُحد» بالانكسار أمام المشركين لأنهم خالفوا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الحذر من كل ما يلهينا عن الطاعات، ومن ذلك النفس الأمارة بالسوء، فقد قال تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف: 53)، وكذلك الحذر من الشيطان الرجيم الذي يزين الشر للناس ويوسوس في صدورهم، وقد حذرنا الله تعالى منه فقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) (فاطر: 6)، كما نحذر من الانشغال عن الطاعات بالمال والعيال، فقد حذر الله من ذلك فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (المنافقون: 9).
رابعاً: الحذر من المنافقين، فإن المنافق يتحدث بجميل الكلام ويتظاهر بالمحبة مع أنه يضمر الشر في نفسه، وإذا حانت له الفرصة فإنه يظهر على حقيقته وينتقم من مخالفه، وقد حذرنا القرآن منهم في قوله تعالى عن المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون: 4).
خامساً: الحذر من الأعداء، وهم الذين يفتنون المسلمين عن دينهم، ويحاربونهم، وقد أمرنا الإسلام أن نحذر منهم حيث قال تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة: 49)، أما الذين يحاربون الإسلام ويسعون في الأرض فساداً، فقال محذراً منهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) (النساء: 71)، والمعنى خذوا حذركم من عدوكم بالإعداد له وحسن مواجهته.
سادساً: الحذر من بعض الأصدقاء، وهو كل صديق يقترب منك من أجل مصلحته التي يريد تحقيقها فقط، فيبالغ في الثناء عليك والتودد إليك، وقد يطلع على كثير من أسرارك ثم يفشيها بين الناس، أو يعلم منك نقاط ضعفك فيمسكك منها، فعلينا أن نحذر من هؤلاء، وفي ذلك قيل: احذر عدوك مرة، واحذر صديقك ألف مرة، فربما انقلب الصديق، فكان أعلم بالمضرة.
فوائد الحذر
أولاً: الإكثار من فعل الطاعات، فالذي يحذر ويخاف يسارع إلى فعل الطاعات، ويدل على ذلك قوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة: 16)، وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر: 9).
ثانياً: البراءة من الوقوع في المعاصي، فإن الإنسان حين يأخذ حذره من المعاصي لا يقع فيها، حيث روى البخاري عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ».
ثالثاً: الرأفة والرحمة من الله، فقد بيّن سبحانه وتعالى بعد أن حذّر عباده من غضبه أنه رؤوف بهم، حيث قال عز وجل: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران: 30).
رابعاً: المغفرة من الله، قال الله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة: 235)، ومعنى حليم لا يعجّل بالعقوبة، ومعنى غفور كثير المغفرة لمن كان حذراً من الوقوع في الخطأ.
خامساً: الحذر من المعصية سبيل إلى الجنة، فقد قال الله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن: 46)، وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خافَ أدلَجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ».
فالحذر مبدأ إسلامي، جاءت الوصية به في القرآن الكريم، وأكدته السُّنة النبوية المطهرة، وهو علامة وأمارة على الأخذ بالأسباب، لكن الحذر لا يمنع من القدر، فالمسلم يؤمن بما قدره الله تعالى، ويرضى به.
_________________________
(1) المنهج الحركي لليبرة النبوية: منير الغضبان، ص 137.