روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»(1)، وروى البخاري ومسلم أيضا عن أبي بكر قال: قلت يا رسول الله ألم يأن للرحيل؟ قال: بلى، فارتحلنا بعد ما زالت الشمس والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك على فرس له، فقلت: يا رسول الله، أُتينا، فقال: «لا تحزن إن الله معنا»، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فارتطمت فرسه إلى بطنها، فقال سراقة: إني قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ، فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقى أحداً إلا قال: كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحداً إلا رده، قال: ووفى لنا(2).
إن الناظر في أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم على سيدنا أبي بكر الصديق يقف متدبراً مع جملتين عظيمتين، هما: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا».
إنها أجوبة تربط المسلم بربه، وتدعوه إلى حسن الاتصال به والتوكل عليه، وعدم الحزن والقلق ما دام المسلم متعلقاً بربه، وإن تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على عدم الحزن ليدعونا إلى الوقوف مع هذا الدرس العظيم، لنحلل السبب في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحزن وتعليله لذلك.
ما الحزن؟ وما أخطاره؟
الحزن هو شعور أليم وانفعال كئيب يحصل للإنسان عند فوات محبوب أو حصول مكروه.
وللحزن أخطار عظيمة على صحة الإنسان، فقد قال الله تعالى مبيناً حال نبيه وعبده يعقوب عليه السلام: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: 84)، وقد أكد الأطباء أن الحزن يؤدي إلى زيادة ضغط الدم، وهو سبب من أسباب السكتات القلبية، وضعف الجهاز المناعي، واضطرابات النوم، كما يؤدي إلى مشكلات في الجهاز الهضمي، وفقدان الشهية، وبعض الأمراض العصبية، وغيرها من الأخطار والأمراض البدنية والنفسية.
لماذا لا يحزن المسلم؟
أولاً: أهل الإيمان لا يحزنون:
أكد القرآن الكريم أن المؤمن لا يحزن، فقد قال الله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139)، وقال عز وجل: (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأنعام: 48)، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت: 30).
وفي صحيح مسلم عن صهيب الرومي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له»، والمؤمن بالقدر لا يحزن، لأنه يؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ثانياً: الحزن وسيلة الشيطان لإيذاء المؤمنين:
أوضح القرآن الكريم أن الشيطان يسعى في تحزين المسلم، حيث قال تعالى: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (المجادلة: 10)، وأن الشيطان يحزن المؤمن بأضغاث الأحلام، ففي صحيح الجامع عن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا ثلاثةٌ: منها تهاويلٌ منَ الشيطانِ لِيَحْزُنَ ابنَ آدمَ ومنها ما يَهُمُّ بِهِ الرَّجُلُ في يقظتِهِ فِيِراهُ في منامِهِ، ومنها جزءٌ مِنْ ستةٍ وأربعينَ جزءًا مِنَ النبوةِ».
ثالثاً: إذا أديت ما عليك فلا تحزن:
قد يبذل المسلم طاقته بعد أن يتحرى أفضل المواقف، ولا يجد سبيلاً غير ما فعل، ثم تأتي الأيام بغير النتيجة التي يريد، ففي هذه الحالة ينبغي ألا يحزن، وقدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي قصة الهجرة، خطط الرسول صلى الله عليه وسلم تخطيطاً عظيماً، ورتب الأمور ترتيباً دقيقاً، لكن المشركين بعد ذلك وصلوا إلى باب الغار، ووصل سراقة بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وهنا لم يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم على حاله، بل أمر صاحبه ألا يحزن، وفي هذا إشارة إلى أن المسلم إذا أدى ما عليه فإنه لا يحزن.
رابعاً: لا تحزن إن الله معنا:
أخبر القرآن الكريم أن الله تعالى مع المؤمنين ومع المتقين ومع المحسنين ومع الصابرين، فما دام المؤمن متحلياً بهذه الصفات عاملاً بها، فلا يحزن لأن الله معه، ومن كان الله معه فلا يضره شيء.
خامساً: الاستعاذة بالله تعالى من الحزن:
جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ والحَزَن، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وضَلَع الدَّين، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ».
متى يحزن المسلم؟
ليس معنى النهي عن الحزن فيما سبق أن المسلم لا يحزن أبداً، فإن غياب الحزن مطلقاً لا يكون إلا في الجنة، فعندما يدخل أهل الجنة في نعيمها يقولون كما قال القرآن الكريم: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر: 34)، أما في الدنيا، فهناك مواطن ينبغي أن يحزن فيها المسلم، لكن يكون حزنه عارضاً، بمعنى أن يحزن على الشيء ثم يتخذ من حزنه وسيلة للإفاقة والتحرك السريع، لا البقاء الدائم في الحزن، وتحويل الحياة إلى قصة حزن طويلة، فمتى يحزن المسلم؟
أولاً: المسلم يحزن لفوات الطاعة:
فمن فاتته الطاعة فينبغي أن يحزن لذلك، ثم يتحرك سريعاً لتعويضها أو الإتيان بما يحقق ثوابها، وقد أوضح القرآن الكريم حال بعض المؤمنين الذين حزنوا لفوت الطاعة، فقال: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {91} وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ) (التوبة).
ثانياً: المسلم يحزن إذا وقع في المعصية:
فمن ارتكب معصية فعليه أن يحزن لمخالفته أمر ربه وعصيانه له، ولهذا كان من شروط التوبة أن يندم المسلم على ما فات وأن يحزن لذلك، لكنه يتخذ من حزنه هذا وسيلة للقرب من الله والتوبة الصادقة والمسارعة إلى فعل الخيرات.
ثالثاً: المسلم يحزن لفقد محبوب:
إذا مات حبيب أو حدث مكروه فإن المسلم يحزن لذلك، لكنه لا يسخط أبداً، فهذا من تقدير الله تعالى، وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: دَخَلْنَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَذْرِفَانِ، ثم قال: «إن العين تدمع وإن القلب يحزن وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبنا»، ففي هذا الحديث ما يدل على مشروعية البكاء والحزن مع عدم السخط والاعتراض على قضاء الله سبحانه وتعالى.
___________________________
(1) أخرجه البخاري (3453) ومسلم (2381).
(2) أخرجه البخاري (3419) ومسلم (2009).