تحت عنوان «السينما المصرية قبل الغزو الإسلامي لقطاع الفن..»، نشر أحدهم على منصة «ريديت» (وهي منصة تلقى رواجاً متصاعداً في الأوساط الشبابية) مقطع فيديو صغير عبارة عن مجموعة من المشاهد الإلحادية في أشهر الأفلام السينمائية التي تطرقت لفكرة الإلحاد (السكرية، الإخوة الأعداء، الرقص مع الشيطان، لقاء هناك)، وبتحليل تعليقات الشباب على هذا المنشور، نجد الأغلبية تسأل عن أسماء الأفلام وبعضها ينتقد مضمون المشاهد، ويذكر بالله واليوم الآخر، وأحدهم يعلق: «أنا ملحد»، وآخر يكتب: «إزيك يلا يا ملحد منك له»!
ولو توقفت عند التعليق الأخير تحديداً سنجد أنه يعبر عن فئة من الشباب لا تتعامل مع قضية الإيمان والإلحاد من منطلقات فكرية وعقلية، ولا تسعى للتأمل والبحث للسعي وراء الحقيقة، وإنما تعبر عن لون من «الروشنة» الشبابية، إن جاز التعبير، يتفاخر بكونه ملحداً لأنه يعتقد أنه هكذا مميز ومختلف عن القطيع، ففي إحدى مجموعات «فيسبوك» التي أطلقت على نفسها «إلحاد بلا حدود»، نجد أحدهم يطلق على نفسه «لست من القطيع»، ولا يتورع أن يقول: إن هناك أخطاء لغوية في القرآن الكريم! وكتب أحدهم شعراً ساذجاً أخذ نصف كلماته من آيات القرآن وكتبه على هيئة قصيدة النثر، ثم أخذ يروج أن هذا لغوياً أفضل من القرآن الكريم!
السطحية التي تقدم بها مثل هذه المنشورات تؤكد أنه لا توجد مساحة من التأمل والتفكير فيما ينشر، كمية الشتائم القذرة والبذيئة التي تضج بها صفحات الملحدين دليل آخر على أن الدافع وراء هذا الإلحاد لم يكن البحث العلمي ولا الانبهار بالعلم، وإنما هو كسر المقدسات والاستهانة بها، فعلى صفحة «رسومات دينية ساخرة» كمية هائلة من «الميمز» التي تسخر من كل ما يتعلق بالدين، وتصوير النبي صلى الله عليه وسلم بصورة فاحشة بذيئة، وتصوير الأنبياء كمجموعة من المرضى النفسيين، وتصوير جبريل والملائكة بصورة هزلية! ووصل الأمر بهم إلى تصوير الله سبحانه وتعالى بصورة إنسان عاجز مرة (كذلك الرسم الذي نجد فيها رجلاً عجوزاً مريضاً يرتدي تاجاً من الذهب الأصفر قعيد كرسي متحرك مكتوب عليه «الله» بينما يقف عالم الفيزياء الملحد هوكينج بصورة عملاقة!)، وتصويره سبحانه وتعالى بصورة المتجبر الظالم النرجسي مرات (تعالى الله عما يصفون)، أما السخرية من الشريعة فحدث ولا حرج خاصة فيما يتعلق بقضايا النساء.
إلحاد الغوغاء
الإلحاد القائم على الشتائم والسخرية وكسر المقدسات والمحرمات والجهر بالإلحاد والفخر به واستغلال «السوشيال الميديا» في الترويج له يعتبر نوعاً جديداً من الإلحاد، يمكننا أن نطلق عليه «إلحاد الغوغاء»، ولكنه يعد من أشد أنواع الإلحاد؛ حيث يخاطب الغرائز، ففي المنشور الذي سبق ذكره على منصة «ريديت» حاز تعليق يقول: «ليه فيه حب حلال وحب حرام؟!» على أكبر نسبة من الردود وسط الشباب.
المدهش في الأمر أن هؤلاء الملحدين يقومون باستخدام حيلة دفاعية هي الإسقاط؛ فيسقطون حبهم للشهوات على الجماعة المؤمنة وعلى الدين ذاته فيعتبرونه ديناً يدعو للشهوات!
ما يميز إلحاد الغوغاء أن معظم مريديه لا ينتمون للوسط العلمي، فعلى الرغم من تقديسهم للعلم باعتباره بديلاً للدين لتفسير ماهية هذا الكون الذي نعيش فيه، وتبجحهم أن الدين أورث بلادنا الفقر والجهل، بينما ساهم الإلحاد في صناعة مجتمعات سعيدة متقدمة، فإن معظم هؤلاء الغوغاء لا يسعون وراء العلم الطبيعي، والكثير منهم يعد من الفاشلين دراسياً.
ولكنهم وعلى الرغم من ذلك قادرون على إثارة البلبلة؛ لأن جمهور «السوشيال ميديا» يحب المنشورات القصيرة و«الميمز» الساخرة، والحقيقة أن كثيراً من هذا الجمهور يرد على هذه المنشورات التي تروج للإلحاد ببعض التعليقات التي تتسم بعمق الرد، ومحاولة احتواء الملحد، والبعض الآخر يدعو عليهم ويلعنهم، والكثير يسبهم بسباب بذيء يشبه ما يقومون به.
المشكلة أن البعض يقع في فخ الشبهة دون أن يحصل على رد مقنع ومطمئن، إن الجهر بالإلحاد واحتقار المقدسات خاصة مع كثرة التعرض قد تتسبب في لون من الاهتزاز الخفي عند البعض، خاصة من فئة الشباب التي نشأت في ظلال سياسة تجفيف المنابع ومادة الدين التي لا تضاف لمجموع الدرجات.
دوكينز ممثلاً
المجاهرة بالإلحاد بطريقة الغوغاء تستمد أصولها مما يطلق عليه تيار الإلحاد الجديد الذي يستخدم السخرية بطريقة احترافية لزعزعة المعتقد الديني، وتيار الإلحاد الجديد لا يكتفي بالدعوة لإطلاق حرية الإلحاد أو الإيمان، بل هو تيار يدعو لنفي المعتقد الإيماني باعتباره «أصل الشرور»، وهو اسم فيلم وثائقي من جزأين أنتجه وقام بتمثيله أشهر رموز الإلحاد الجديد ريتشارد دوكينز، والفيلم مترجم للعربية.
دوكينز عالم الأحياء الذي أخذ على عاتقه التبشير بالإلحاد الجديد، له العديد من المؤلفات على رأسها كتابه «وهم الإله»، والسؤال هو: لماذا لم يكتف بالكتب المنشورة وسعى عبر مؤسسته لإنتاج الأفلام الوثائقية، بل والعمل كممثل فيها أيضاً بأسلوبه الساخر وأسئلته الموجهة وانتقائه للشخصيات والديانات بما يخدم هدفه المسبق؟ والإجابة ببساطة لأنه يسعى للتأثير في عصر الشاشات، الرجل الذي وجه سهام نقده للمسلمين في كتابه «أعظم استعراض فوق الأرض.. أدلة التطور» باعتبارهم يقفون في وجه العلم، بينما أشاد برجال الدين المسيحي وتطورهم إزاء النظرية عندما هاجم الأديان في فيلمه الوثائقي جعل أقل مساحة للحوار لعرض القضية من وجهة النظر الإسلامية، وقام باستغلال ثغرات العهد القديم والجديد ليطلق أحكاماً عامة تخص الإله وقضية خلق العالم.
جدية القضية
يتحتم على الدعاة أن يأخذوا قضية الإلحاد على محمل شديد الجدية بعيداً عن التسطيح، فالكفر الذي توحش ووصل لأبعد مدى فأنكر وجود الله تعالى، واعتبر ذلك مجرد وهم اخترعه الإنسان البدائي، بل وصل الأمر بهذا الإلحاد للسخرية والاستهزاء به سبحانه وتعالى والسعي الدؤوب لتجهيل الأطفال مبادئ الإيمان واعتبار أن الإيمان أصل الشرور.
هذا الكفر لا بد أن يواجَه بطرق غير تقليدية، فمع كثرة العلماء الذين يدرسون العقيدة وأصول الدين، إلا أن قلة قليلة هي التي تستطيع أن تواجه هذا الكفر الفاحش الذي يستخدم أدوات لا يستطيع العلماء التقليديون استخدامها.
وهناك فئتان منوط بهما المواجهة:
الأولى: هي دارسو العلم الطبيعي؛ حيث ينبغي لهؤلاء السعي لمزيد من الأبحاث العلمية التي تحمل رؤية فلسفية تدعم القضية الإيمانية، كما أن عليهم واجب تبسيط العلوم ونشرها للعامة مع العناية بالأبحاث التي تنتقد النظريات التي تستخدم لنشر فكرة الإلحاد، وليكن من نموذج دوكنز حافزاً لهم، فالرجل أستاذ في علم الأحياء، وينشر أفكاره كمبشر، بل ولا يتورع عن إنتاج وتمثيل الأفلام التي تخدم قضيته ويسعى بكل الطرق لمنع الإيمان عن الأطفال.
الثانية: هم المتخصصون في الإعلام الرقمي الذين يستطيعون إنتاج الأفلام القصيرة والمنشورات المكثفة وإبداع «الميمز» الساخرة التي تبدو في كثير من الأحيان أشد تأثيراً من الأدلة العقلية.
وهذا بالطبع لا يتعارض مع عمل الدعاة والعلماء المعتاد الذي يجب عليهم بث حرارة الإيمان في القلوب ونزع بذور الشك والريبة.