محارق يومية يتعرض لها المسلمون في غزة على مدار الساعة ولمدة تخطت 9 أشهر دون أن يتحرك العالم جدياً لإنقاذ الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ من موت تصبه عليهم قنابل العدو صباً دون اعتبار لحساب أو خوف من بشر أو حتى رب البشر، ليصدق فيهم مشهد الأحزاب الذين تكالبوا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة «الخندق»، وقد وصفه الله عز وجل في قوله تعالى: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا {10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) (الأحزاب).
كل هذا يمر بينما ملايين المسلمين في أنحاء الأرض يوقفون أنفسهم للدعاء لغزة وأهلها أن يوقف آلة الجحيم المسلطة عليهم، فقتلت عشرات الآلاف بلا رحمة وبلا جريرة إلا أنهم ثبتوا على أرضهم، ملايين الدعوات في رمضان من الصائمين القائمين، وملايين الدعوات على جبل عرفات من الحجاج الذين أنفقوا الملايين للوصول لذلك المكان المقدس، ملايين الدعوات لأمهات وآباء في بيوتهم يحجزهم العجز عن المشاركة إلا بالدعاء، فأين ذهبت تلك الدعوات؟ ولماذا لم يستجب رب العالمين بوقف هذه الحرب والانتقام من الصهاينة؟ لماذا لم تتزلزل الأرض من تحت أقدام العدو فلا يستطيع إيذاء المسلمين؟
عشرات الأسئلة تدور في أذهاب الكثيرين، صرح بها البعض وأسرها آخرون في أنفسهم، فأين ذهبت تلك الدعوات؟
سُنة الله في الابتلاء والتمحيص
قدر الله تعالى على خلقه سُنة الابتلاء والتمحيص استعداداً للنوازل والتعامل معها، فقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155)، وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد: 31)، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).
فالابتلاء قدر الله على المؤمنين لينالوا به الدرجات العلا من الجنة، فهو طريق النصر والتمكين وبلوغ الغايات وصناعة المجد، فعن خبَّاب بن الأرَتِّ قال: شكَوْنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخَذُ الرجلُ فيُحفَر له حفرة في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضَعُ على رأسه فيجعل نصفين، ويُمشط بأمشاطِ الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموتَ، لا يخاف إلا اللهَ والذِّئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (رواه البخاري).
وتوقيت رفع البلاء يكون بعد دفع الثمن كاملاً، فلا محاباة لأحد دون أحد من رب العالمين، هي أسباب يجب أن تبذل ثم يأتي نصر الله في وقت يقدره هو وليس بأمنية أحد، فيقول الله تعالى: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (النساء: 123).
يقرر الله عز وجل في هذه الآية قانوناً ربانيا لا يتغير محاباة لأحد من خلقه، فالله بعدالته المطلقة لا يحابي أحداً، وهو أن الأمور لا تسير بالأمنيات، ولا تتبدل بمجرد الرغبات، وإنما هي أسباب وتدافع بين الأمم ليصير الحق والباطل في صراع ممتد إلى قيام الساعة ليجعل بعض الناس فتنة لبعض، وليجعل الضيق والشدة اختباراً لإيمان المؤمن وثباته وبذله في سبيل فكرته التي عاهد الله عليها، وليستنفد الباطل أسباب بقائه، فلا يكون له عند الله حجة فيأخذه من حيث لا يحتسب، فهو إذن تمحيص الله للمؤمنين، واستدراج للظالمين، فالله عز وجل «يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» (رواه البخاري)،
فالأمر مقدر أولاً وأخيراً من الإرادة الإلهية المطلقة وعدالته التي تستوجب التدافع لدي البشر؛ (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ {42} مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) (إبراهيم).
الشهادة أول خطوات النصر
جميعنا يتألم لفقد الأحبة وخسارتهم بالموت حتى لو كان شهادة، وذلك لأن قلوبنا لم تمتلئ كلياً بالإيمان بالله عز وجل والأجر العظيم الذي أعده للشهداء الأخيار من عباده؛ (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 140).
فضعف الإيمان، وقصور النظر يجعلنا نرى الشهادة خسارة في الأرواح، بينما الحقيقة المطلقة أنها الفوز الأكبر بالنعيم المقيم واختيار رب العالمين.
فأين الدعاء؟
فلمن يحسب أن الله عز وجل لم يستجب لدعاء الصادقين وينصر غزة، لقد انتصرت غزة بالفعل بثبات أهلها ومجاهديها وكسبت أرضاً لم تكن لتكسبها إلا بإعلاء راية الجهاد، وأحيت القضية بعد أن كادت أن تموت، وفتحت باب تحرير المقدسات وصار العالم يلهث خلف مقاومتها لتقبل بالتفاوض، أصبح لها جيش يحارب بندية مع جيش العدو الذي انفضح أمره في جبنه وخسته وأسقطت أسطورة أقوى كيان وجيش لا يقهر.
عن أبي هريرة، أنَّ النبيَّ ﷺ جاءَه ناسٌ من أصحابه فقالوا: يا رسولَ اللهِ، نجدُ في أنفسِنا الشيءَ نُعَظِّمُ أن نتكلَّمَ به، ما نحبُّ أنَّ لنا الدُّنيا وأنَّا تكلمْنا به، فقال لهم النَّبيُّ ﷺ: «أوَ قَدْ وجدتموه؟»، قالوا: نعم، فقال لهم النّبيُّ ﷺ: «ذاك صريحُ الإيمانِ» (شرح البخاري لابن الملقن)، ففي المحن يتلاعب الشيطان بقلب الإنسان ليفتنه، لكن القلب المؤمن المستجير بالله وحده من يوقن أن هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله.
إنها دار اختبار لا دار جزاء، والأمر كله لله أولاً وأخيراً، لكننا نوقن أن العاقبة للمتقين، وعلى المؤمن أن يعتبر من قصص الأولين.
ثم ماذا لو انتصر المؤمنون في أول الأمر دائماً؟ فأين الاختبار والتمحيص؟ وكيف يتبين من يستحق أعلى الجنان أو الدرك الأسفل من النار؟ إنها حكمة الله والسلعة غالية وتستحق.