حتى هذه الساعة لم تصل البلاد العربية إلى مخطط لمجابهة العدوّ المكتسح، ولم تخط الخطوات الضروريّة في طريق التعاون والتنسيق والإعداد على المستوى المطلوب.. ونحن نواجه خطراً محققاً، ونخوض معركةً يصفها الجميع بأنها معركة مصير.
العدو في أرضنا وفي سمائنا ومياهنا يقذفنا بالموت والدمار، ويحاربنا على صعيد الدنيا كلّها ألوان الحرب، ونحن مشغولون عنه وعن مجابهته بأنانياتنا وشهواتنا ومصالحنا الصغيرة وحربِ بعضنا بعضاً حرباً خفية أو معلنة.. وكم كنا نعجب لأحوال العرب في الأندلس قبل زوالهم، وقد غفلوا والعدوّ يقظان.
وتفرّقوا شِيَعاً فكلّ مدينةٍ فيها أميرُ المؤمنينَ ومنبرُ
واصطرعوا والعدوّ يهاجمهم ويفتك بهم.. فذهبوا وذهب ما اصطرعوا عليه من السلطان الهزيل، والمطامع الحقيرة، ولم يبق لهم إلاّ هزء التاريخ، وازدراء الأجيال على توالي العصور، وما ينتظرهم من حساب في تلك الدار الباقية على الأمانة التي خانوها، والأمّة التي ضيّعوها، والبلاد التي أسلموها.. كم كنا نعجب لهم -أو لحكامهم على الأصحّ- حتى رأينا في حاضرنا ما هو أدعى إلى العجب والإنكار، وما لا يصدق أن مثله يكون.
دولنا تختلف ولا تأتلف، وتتحارب أو تتهادن على دَخَن كما يقول المثل، ولكنّها لا تجتمع اجتماعاً مخلصاً، ولا تتعاون تعاوناً حقيقيّاً مستمرّاً، رغم كلّ ما أصابها -وما يزال يصيبها- في مقدساتها، وفي أرضها وكرامتها، ورغم الخطر الشامل الماثل، والقضية الكبيرة المشتركة التي ترتبط بالجميع، ويُفترض أن ترتفع فوق كل خلاف.
وجلّ حكامنا جعلوا معركتهم مع شعوبهم بالدرجة الأولى لا مع إسرائيل وقوى الصهيونيّة والاستعمار، ليحتفظوا بسلطانٍ هزيل لا يشرفهم، ومزايا شخصيّةٍ خسيسة على حساب كرامة الشعب ووجوده، وفي مسرح آلامه ومآسيه.. فاستنفدوا الطاقات والإمكانات والجهود الكثيرة في إخضاعه ومراقبته، وخنق حريته وإرادته، وقدّموه لقمة سائغة لأعدى عدوّ.. بدل أن يجعلوا معركتهم مع إسرائيل، ويحشدوا لها سائر الطاقات والإمكانات والكفاءات.
وأكثر منظماتنا ما تزال بعيدة عن الإحساس العميق بمدى الخطر الذي تقابله وتستقبله، وعن التجاوب الفعّال مع حاجات الأمّة الأساسيّة، ومقتضيات مصلحتها التاريخيّة الجوهريّة في هذه الظروف.. وما تزال تفكر وتعمل كأنه ليس هنالك وطنٌ مسلوبٌ، وحقٌّ مغصوبٌ، وعدوٌّ يصابحنا ويماسينا بالعدوان، ويريد لينتزع منّا الأرض والكرامة والحياة يوماً بعد يوم.. وما تزال تحوم حول الكسب الشخصيّ والحزبيّ على حساب القضيّة ومصلحة البلاد الكبرى، تصطرع فيما بينها في الوقت الذي تتعرض فيه البلاد التي تصطرع عليها هي نفسها للضياع.
ولقد كانت هذه حالنا نحو عشرين سنة بعد نكبتنا الأولى سنة 1948م، وما برحت هي حالنا الآن أيضاً بعد نكبتنا الفادحة سنة 1967م، لم نتعظ، ولم نتعلم، ولم نغيّر ما بأنفسنا حتى يغير الله ما بنا.. والخطر يتفاقم، والعدوان يتوالى، والضربات الغادرة تنزل بنا في مواقعنا على خطّ إطلاق النار، وفي قرانا ومدننا.. ولن يقبل مخلصٌ عاقلٌ باستمرار هذه الحال.
ونحن نعلم أن تغيير واقعنا تغيّيراً حقيقيّاً جذريّاً، لنكون أخلص وأوعى، وأشدّ ارتباطاً بالواجب، وقدرةً على النهوض به، يحتاج إلى زمن طويل، وجهدٍ عظيمٍ، وتضحية جسيمة من المؤمنين الصادقين المدركين لحقائق الأمور.. وأنه لا بدّ من إعادة بناء الفرد والمجتمع على أساس عقيديّ وفكريّ وخلقيّ وعلميّ متين يعطينا الوحدة والقوّة والقدرة، ومن تخطيط حياتنا بجوانبها المختلفة تخطيطاً جديداً يؤهلنا لمواجهة التحدّي وإحراز النصر.. وأن الإسلام عندما نعود إليه -وقد جهد الأعداء في إبعادنا عنه- هو وحده الطريق.
نحن نعلم ذلك كلّه، ونؤمن به، ونوالي سعينا إليه.. ولكنّنا أمام مسؤولية راهنة لا تحتمل الانتظار، وأمام مواجهة مفروضة لا تقبل التأجيل، ولا بدّ منها إذا أردنا البقاء وامتلاك الفرصة للإعداد الأفضل، والعمل الجذري المنشود على المدى الطويل، وهي تملي على الجميع لمصلحتهم ووقايتهم ومصلحة أمتهم وبلادهم في الحاضر والمستقبل أن يرتفعوا في هذه المرحلة التاريخيّة الحاسمة إلى المستوى الذي تقتضيه السّلامة والمصلحة، وأن يخطوا هذه الخطوات الأساسيّة الضروريّة كحدّ أدنى:
1- أن تُجعل قضيةُ فلسطين القضية الأولى في هذه المرحلة “حقيقةً لا كلاما”، وأن تَحشد لها كلّ دوّلة من الدوّل العربية أكبر ما تستطيع من الإمكانات، وأن ترتّب أوضاعها ترتيباً خاصاً لتكون طاقاتها ومواردها في خدمة القضيّة القائمة محليّاً ودوليّاً.
2- أن يوحّد الجهد العربي في قضية فلسطين سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً بأسرع ما يكون ضمن مخطط شامل مدروس، ينبثق من متطلبات القضيّة على كلّ صعيد، ويرتفع فوق الخلافات العديدة المتباينة الأسباب، ويمنع المتاجرة بالقضيّة وجعلها أداةً أو مطيّة لأغراض أخرى.
ومن أوجب الخطوات في هذا السبيل:
– أن تُعتبر الجبهات العربية كلّها “وبخاصة تلك التي تقابل العدوّ” جبهة واحدة، وأن يعتبر المصير العربي كلّه مصيراً واحدا
– أن يكون للمعركة -دفاعاً وهجوما- مخططٌ مشترك وقيادة موحدة، وأن يكون في هذا المخطط دورٌ لكلّ قطر عربيّ
– أن تُهيأ أسباب الوقاية للأراضي العربية والقرى والمدن، وأن يعدّ الشعب للدفاع عن نفسه والإسهام في معركة مصيره على أحسن وجه.
– أن تُغذّى المقاومة الشعبيّة في الأرض المحتلّة، وتدعم، وتوفر لها ولعناصرها أسباب الوحدة والنموّ السليم، وأن يكون لها دورها الأساسي في المخطط العربي المشترك، وأن ينطلق العمل كلّه متكاملاً متناسقاً في حدود هذا التخطيط.
3- أن تعاد صلة الشعب المتينة الواعيّة بالإسلام العظيم الذي يعتقده المسلم ديناً، ويعتزّ به النصرانيّ تراثاً وحضارة، ليجد فيه الشعب نفسه وحقيقته وهويته الواضحة وطريقه الأصيل، ويخلص من الشتات والضياع القاتل الذي دفع إليه، ومن الانقياد الأعمى إلى هنا أو هناك.. والإسلام -كما يبين لنا تاريخنا كله- هو عماد صمودنا، وباعث مقاومتنا، ومكوّن حضارتنا، وحافز تقدمنا، وذخيرتنا التي لا تنفد على الأيام.. وهو وحده الذي يستطيع أن يحررنا من اليأس والاستسلام، ويولد فينا الثقة بالنصر والتصميم على الجهاد، ويدفعنا إلى الأخذ بما يحقق النصر من الأسباب، ويرتفع بنا إلى ذروة البطولة والتضحية.. وهو الذي يمكن أن يؤهلنا للمواجهة القريبة، والإعداد على المدى الطويل، بكل ما يتطلبه ذلك من صفات ووسائل ومنجزات.
الإسلام أعظم قوّة لنا في مواجهة عدوّنا، ولا يرضى بحرمان الشعب من هذه القوة في معركة المصير التي يخوضها الآن في أصعب الظروف عربيّ مخلص مهما كان معتقده الشخصيّ أو موقفه من قبل.. والإسلام هو الذي يستجيش كلّ طاقاتنا، ويستخرج أقصى إمكاناتنا حيث يعجز أو يقصر سواه، وهو الطريق القاصد الذي ينطوي فيه كل طريق صحيح.
4- أن يستفاد من مئات الملايين من المسلمين الذين يلتقون معنا بالعقيدة والشعور، ويرتبطون ارتباطنا بأولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلّم، وبالأرض التي باركها الله عزَّ وجلَّ كما ورد في كتابه الكريم، وأن نشركهم معنا في المعركة، لتكون معركة العرب والمسلمين جميعا.
5- أن تُوَحّد الجهود العربية على الصعيد الدّولي بكلّ مستوياته، تخطيطاً وتنفيذاً، وأن يوطّد التعاون مع كلّ دولة تقف معنا، وأن يسعى لاكتساب كلّ دوّلة حرّة وإنسان شريف، وأن يبين حقنا للدنيا بكل وسيلة مناسبة، وأن تشعر الدول الموالية لإسرائيل بالخطر الحقيقيّ على مصالحها في بلادنا، وبالخسارة التي تصيبها بموالاة باطل أعدائنا، وأن يقنع الجميع من خلال مواقفنا بأن صداقتنا تنفع وعداوتنا تضرّ.
6- يجب أن ينتهي عزل الشعب عن قضيته وقضية مصيره.. وأن تُرَدَّ إليه حريته ويعود إليه حقه المسلوب، ليستفاد من طاقاته وكفاءاته كلّها، ويكون له دوره في توجيه المعركة وحماية القضيّة من كل انحراف أو تفريط أو خيانة أيضا.
________
من كتاب «في فلسطين آراء ومواقف».