تنوعت المقاربات التي حاولت نقد العلمانية في عالمنا العربي والإسلامي، في ظل ما شكلته تلك الظاهرة من خطورة كبيرة على النهضة الحضارية التي يرى كثير من المفكرين أنها غير ممكنة بمعزل عن المكون الديني والثقافي الإسلامي، من ثم فإن العلمانية كمجموعة من الأفكار والمعتقدات والإجراءات الهادفة إلى تحييد الدين وعزله عن الحياة السياسية والاجتماعية وقصره داخل الإطار الشخصي الضيق، إنما هي في نظر هؤلاء مؤامرة غربية على الإسلام تستهدف تفريغه من مضمونه كدين شامل وتشريع إلهي جاء لتنظيم الحياة بمختلف جوانبها الخاصة والعامة.
وقد تفرد مشروع المفكر المصري الراحل د. عبدالوهاب المسيري في نقد العلمانية بتقديم رؤية أكثر عمقاً وأوسع شمولاً للعلمانية لا كمفهوم جزئي فحسب، بل كنموذج معرفي حضاري كامن في سائر جوانب الحياة الغربية وحاكماً لها في كافة مجالات الحياة، وهو مشروع نقدي مهم تصدى لتدقيق المفهوم ونقده في إطار أوسع من فهم وإدراك الحضارة الغربية والأيديولوجيا الحاكمة لها، مما مكنه في النهاية من تفنيد دعاوى العلمانية التي تحاول حصرها في التعريف الخاص بـ«فصل الدين عن الدولة» واختزالها في مجموعة من الإجراءات والممارسات البسيطة.
انتقادات المسيري لدراسات العلمانية
وقد وجه المسيري في إطار دراسته للعلمانية نقداً مهماً للدراسات العربية التي تصدت لدراسة العلمانية ونقدها، وذلك نتيجة وقوعها فريسة لجملة من الأخطاء المنهجية والموضوعية والتنظيرية، وتشتمل أهم انتقادات المسيري للمشروعات العربية ما يلي:
– إشكالية الاختزال والتبسيط: إذ انحصرت تلك الدراسات على تعريف العلمانية باعتبارها «فصل الدين عن الدولة»، وهو تعريف مفرط في الاختزال والتبسيط الذي لم يتمكن من إدراك الأبعاد البنيوية الشاملة التي يتضمنها المفهوم، وهو ما فوت على الدارسين إمكانية الإحاطة بكافة مثالب ومساوئ العلمانية وانعكاساتها المدمرة في كافة أنحاء الحياة العامة والخاصة.
– إشكالية الثبات: حيث تبنت الدراسات فكرة العلمانية باعتبارها فكرة ثابتة، لا متتالية آخذة في التحقق، ولها تاريخ؛ الأمر الذي يعني أن الدارسين –كل حسب لحظته الزمنية– درسوا ما هو قائم وحسب، دون أن يدرسوا الحلقات المتتالية التي شهدت تطور العلمانية في الدول التي طُبقت فيها.
– إشكالية التعريف: نتيجة اختلاف ممارسات العلمانية في الغرب وغياب نموذج موحد شامل للعلمانية، فقد تعدد التعريفات والمصطلحات التي تصف جوانب وتجليات مختلفة لنفس الظاهرة، بالإضافة إلى إغفال ما شهده مصطلح العلمانية من مراجعات غربية كثيرة في إطار مشروعات نقد الحداثة الغربية، وهو ما جعل الدراسات العربية غير ملمة بأبعاد المصطلح والتطورات التي طرأت عليه والاختلافات بشأنه في الغرب.
العلمانية في مشروع المسيري
وانطلاقاً من النقد السابق للمشروعات العربية التي تصدت لظاهرة ومصطلح العلمانية، تأسس مشروع المسيري على التمييز فيما بين العلمانيتين «الجزئية» و«الشاملة»، فالعلمانية الجزئية في رأي المسيري هي علمانية ظاهرية وبسيطة وحتمية تنطلق من حصر العلمانية في المجال السياسي –وربما الاقتصادي- وهي مقبولة باعتبار أن الدول الحديثة ببنيتها المُعقدة وتفريعاتها الإجرائية والبيروقراطية تتطلب فصلاً حتمياً بين المؤسسة الدينية والدولة، فالمؤسسة الدينية لا يمكن أن تتوحد مع المؤسسة السياسية في أي تركيب سياسي وحضاري مركب، وهو الأمر الذي أقره الإسلام في الحديث النبوي الشريف: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»، ومن ثم فهي لا تتعارض في هذا الإطار مع الإسلام، في رأي المسيري.
لكن المسيري يؤكد، في الوقت نفسه، أن العلمانية الجزئية التي يتم الترويج لها باعتبارها مرادفاً للعلمانية، ليست هي مكمن الخطر طالما أنها لا تنطبق بأي حال على القيمة الحاكمة والمرجعية النهائية للمجتمع والدول، لكن العلمانية لا تقتصر على تلك الرؤية الجزئية، بل تتعدى ذلك -بحسب المسيري- متجاوزة مجالات الاقتصاد والسياسة والأيديولوجيا إلى العلمنة الاجتماعية الكاسحة التي قوضت رقعة الحياة الخاصة، وكرست عبر الدولة العلمانية الغربية والمؤسسات التربوية والترفيهية والإعلامية جهودها للتغلغل في وجدان الإنسان، ووجهت سلوكه وعلاقته بأعضاء أسرته وقوضت ما تبقى من أخلاقيات مسيحية أو حتى إنسانية.
وبذلك انتقلت العلمانية التي تم التسويق لها بأنها «فصل الدين عن الدولة» من الجزئية إلى الكلية، وانتقل معها الغرب من مرحلة الصلابة إلى السيولة، عبر متتالية العلمانية التاريخية التي تطورت من المراحل الجزئية إلى المرحلة الشاملة، إذ تعني العلمانية الشاملة لدى المسيري رؤية للعالم تمتلك بعداً معرفياً كلياً ونهائياً، تحاول تقويض علاقة الدين والمطلقات الأخلاقية والماورائيات بكل مجالات الحياة العامة لصالح المادية التي ترى مركز الكون كامناً فيه غير متجاوز له وأن حركة الكون لا غاية أو هدف لها ولا تؤمن بالخصوصيات أو التفرد أو الثوابت ولا بالتبشيرات الدينية بشأن الحياة الآخرة والثواب والعقاب.
وطبقاً للمسيري، فإن تحقق العلمانية الجزئية في متتالية العلمنة في أي مجتمع وفي أي لحظة تاريخية، وبغض النظر عن المجال الذي تبتدئ فيه تلك العلمنة سواء الاقتصاد أو السياسة أو المجتمع أو الحياة الخاصة، فإن تلك المتتالية تأخذ في التحقق والانتقال إلى كافة المجالات بما يؤدي في نهاية الأمر إلى العلمنة الشاملة، وذلك نتيجة لهيمنة الحضارة الغربية التي نبعت العلمانية بالأساس منها، ولكمون تلك النزعة العلمانية المادية في النفس البشرية بشكل عام.
العلمنة والحياة اليومية
ويقدم النموذج التفسيري الخاص بالعلمانيتين الذي صاغه المسيري تفسيرات مهمة تساهم من إدراك الممارسات اليومية والإجراءات التفصيلية التي نعايشها في حيواتنا اليومية ونلتزم بها، بينما هي في جوهرها ممارسات تسهم في تعميق أثر العلمنة في مجتمعاتنا ونفوسنا، وتهميش القيم والثوابت والإيمانيات والروحانيات لمصلحة ترسيخ قيم الصراع وشرائع الغابة وأخلاق المادة الخالية من المعنى، وفي مقدمة تلك الممارسات اليومية الاستهلاكية العالية للمنتجات تحت دعاوى السعي وراء «الموضة» أو تناول الأطعمة السريعة الخالية من القيمة الغذائية والنمطية، أو تبني السلوكيات العالمية كرغبة في ملاحقة التجديد، وهو ما يصنع إنساناً مادياً وظيفياً لا يسعى إلى شيء ولا يدرك ما وراء الأشياء ولا يستهدف خلاصه الروحي، بل يصبح مجرد نسخة مشوهة من المواطن العالمي الذي يرتدي الموضة نفسها ويأكل من المطعم العالمي الشهير نفسه، ويستخدم وسيلة التواصل الاجتماعي لخوض تحديات و«ترندات» محلية وعالمية، ويسعى لجمع المال لتحقيق مزيد من الرغبات الاستهلاكية محصوراً في دائرة خالية من القيم والأخلاق و«مُعلمن» بالكامل.
وأخيراً، فإن مشروع المسيري قد سعى في دراسته إلى ترسيخ التمييز فيما بين الفكر والأفكار، إذ اعتاد العقل العربي إلى نقل الأفكار وليس الفكر أو المنظومات الفكرية، بينما الفكر يفترض وجود منظومة شاملة من الأفكار التي تجمعها وحدة واحدة، ونحن حين نتعاطى مع الأفكار الغربية وبخاصة العلمانية قد سعينا لنقل الأفكار دون إدراك للنموذج الكامن وراءها ومدى خطورته وتأثيراته المحتملة؛ ما ساهم في تجاهل الأبعاد المعرفية لكافة المفاهيم الغربية التي استقيناها من الغرب، وهو ما أضعف المنظور النقدي وأسهم في تجميع أفكار متناقضة جنباً إلى جنب دونما تمييز، وهو ما يتطلب إعادة النظر في الأفكار الغربية كوحدة واحدة تنطلق من نموذج فكري ومنظومة معرفية شاملة وإعادة تقييمها تبعاً لتلك الرؤية.