تمر الأمة بلحظات ضعف جعلتها مستباحة على أكثر من صعيد ومستوى؛ فالمستوى السياسي يشهد تبعية للغرب، وعدم القدرة على المناورة والتحدي إلا في أضيق الحدود، وعلى المستوى الفكري هناك عملية تغريب وتشويه للتراث نتج عنهما بروز جيل لا يرى أهمية لتراثه أو لعلمائه، ويرى أن الغرب هو صاحب الفكر الحقيقي الجدير بالمتابعة له، والاستنساخ منه، وعلى المستوى الاجتماعي دخلت علينا عادات الغرب وتقاليده، وتأثرنا به في طريقة ملبسه ومأكله ومشربه، واتخذنا من مشاهيرهم قدوات نحذو حذوهم، أما لسانهم فقد غزانا واختلط بلغاتنا ولهجاتنا، وظهرت طبقة قد استعجم لسانها، وأدارت ظهرها للغتها ودينها.
كل هذا أضعف مناعة الأمة، وجعلها أكثر قابلية للأفكار الغريبة والشاذة والمنحرفة.
ووجود الإلحاد ليس طارئًا على عالمنا، بل كان موجودًا طوال تاريخنا، لكنه في مرحلة من مراحلنا كان يجد قوة السلطة التي تحمي من الانحراف، وكذلك العلماء الأثبات الذين وقفوا بالمرصاد لكل من تسول له نفسه الطعن في الدين، وكانت الأمة محصنة بالإيمان والعلم ضد الانحرافات.
فقد انتشر الإسلام وبسط نفوذه على مناطق كانت تستوطن فيها أديان سماوية ووضعية، فقد بسط نفوذه على بلدان عبدت النيران كالمجوس، والبشر كالنصارى، والشيطان كاليزيدية.. إلخ.
وقد تسرب من هؤلاء من حاول أن يطعن في الإسلام، وكان الوعي قائمًا فأسموه بالزندقة الذي كان شكلاً من أشكال الإلحاد، حتى إن كثيرين اتُّهموا بالزندقة، وكان سيف الدولة مصلتًا على الزنادقة مهما علا قدرهم؛ فهذا عبدالله بن المقفع (106 – 142هـ) الذي كان من أئمة الكتَّاب، وأول من عني في الإسلام بترجمة كتب المنطق، وقد ولي كتابة الديوان للمنصور العباسي، اتهم بالزندقة، فقتله في البصرة أميرها سفيان بن معاوية المهلبي(1).
وقام العلماء وقتها بالرد والمجادلة عن الدين ضد الطاعنين، ومن أشهر كتب القدماء كتاب «الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد» لابن الخياط.
لكن الآن اجتمع ضعفان: ضعف الأنظمة الحاكمة في الدول العربية والإسلامية، وضعف الشعوب واستلابها.
وقد تجلى هذا الضعف في بروز الإلحاد والمجاهرة به -وفي حالات أخرى الاستخفاء به- في قلوب فئات من الشباب؛ حيث يقعون في الإلحاد تمردًا على الدين والمجتمع وإظهار الاختلاف، أو لوقوع الشبهات في قلوبهم، أو لاضطرابات نفسية وقعوا فيها ففروا من الإيمان إلى الإلحاد، أو لفرارهم من براثن بعض المنتسبين للإسلام الذين أوغروا صدورهم ضد المخالفين برميهم بالفسق والبدعة فتركوا التدين جملة لكره التعصب الذي رأوه من البعض ضد الآخرين.
وبلدان المغرب العربي لم تكن بدعًا في ظهور الإلحاد فيها، وإن كان الإلحاد في بعض الأحيان مجرد واجهة للتنصير والتطبيع.
وقد حاول الباحث المغربي خالد أبداوا، وهو أحد مؤسسي مبادرة «الباحثون المسلمون» المعنية بالرد على الإلحاد بلغة العلم، إبراز الأسباب التي دعت البعض للإلحاد فيقول: إن الحوارات التي يجريها مع الشباب المتشككين تثبت أن أهم دوافع الإلحاد نفسية اجتماعية، مثل: حب الظهور والتمرد، أو التعرض لمعاناة شخصية تفقد الشاب التوازن، أو التململ من حالة التخلف الحضاري بالتوازي مع الانبهار بالحضارة المادية(2).
والملحدون وجدوا متنفسهم من خلال الإنترنت والعالم الافتراضي؛ فراحوا ينشئون المجموعات على «فيسبوك» ليجتمعوا ويتحدوا فيما بينهم وليتمكنوا من التبشير بأفكارهم واستقطاب بعض الشباب والشابات ليكونوا النواة الصلبة للإلحاد في بلدانهم.
فمن خلال الإنترنت يضعون منشورات وفيديوهات دعائية، ومقالات ورسومًا كاريكاتيرية تسيء إلى الإسلام والمقدسات الدينية، وتسب المسلمين بصفة عامة، وتستهزئ بالدين وشعائر الإسلام عن طريق الكتابة والرسم، مع تحريف سور القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والتشكيك فيهما، ودمج أغان في آيات من القرآن الكريم ونشرها(3).
وهؤلاء الملحدون يعرفون ضعفهم وقلة تأثيرهم في المجتمع، وأنهم منبوذون؛ فقد قال أحدهم عندما سئل عن الملحدين الجزائريين: إنهم ليسوا بنفس القوة الموجودة في دول أخرى وشقيقة، فهم متخفون(4).
فهم يحاولون مد جسور التواصل بينهم وبين الملحدين العرب سواء في داخل بلدان المغرب العربي أو خارجها.
تقول إحدى الصحفيات الجزائريات: تعرَّفت على جزائريين وكذا على عرب مقيمين بالجزائر على غرار بعض المصريين واللبنانيين الذين بدورهم عرَّفوني على أبناء جلدتهم الذين يقيمون في بلدانهم الأصلية ولا يعترفون بالدين ويشكِّكون في كل ما خلقه الله تعالى(5).
وهذا ما أكدته بعض أجهزة الدولة الجزائرية عند القبض على شبكة تنشر الإلحاد فقالت عنها: هي ذات امتداد دولي، وعلى علاقة بشبكات تدعو إلى الإلحاد والتنصير، وهي موجودة في بعض بلدان الشرق الأوسط كسورية ومصر(6).
وقد زعم تقرير لمركز «ريد سي» التابع لمعهد «كلوبال» الأمريكي أن المغرب يضم ثاني أكبر عدد من المجاهرين بإلحادهم على صعيد الدول العربية، بعد مصر التي احتلت المرتبة الأولى(7).
والأنظمة في دول المغرب العربي تعمل على تأكيد المرجعية الدينية السُّنية المتمثلة في المذهب المالكي فروعًا والأشعري أصولاً؛ فإنها تجرم وتعاقب من يثبت في حقه اعتناق الإلحاد والعمل على نشره؛ فالمادة (220) من القانون الجنائي المغربي ينص على أن «من استعمل العنف أو التهديد لإكراه شخص أو أكثر على مباشرة عبادة ما أو على حضورها، أو لمنعهم من ذلك، يعاقب بالسجن من 6 أشهر إلى 3 سنوات وغرامة تتراوح 200 إلى 500 درهم، ويعاقب بالعقوبة نفسها كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى»(8).
أما في الجزائر، فنشر الإلحاد من الأفعال المعاقب عليها قانونًا بموجب المادة (144 مكرر 2) من قانون العقوبات، وتنص هذه المادة على «عقوبة السجن أدناها ثلاث سنوات وتصل إلى خمس سنوات، وبغرامة من 50 ألف دينار إلى 100 ألف دينار، أو بإحدى هاتين العقوبتين ضد كل من أساء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بقية الأنبياء، أو استهزأ بالمعلوم من الدين بالضرورة، أو بأي شعيرة من شعائر الإسلام، سواء عن طريق الكتابة أو الرسم، أو التصريح أو أي وسيلة أخرى»(9).
فالإلحاد لا يمثِّل ظاهرة في بلدان المغرب العربي؛ وذلك لأن الإسلام متمكِّن من القلوب، وإن بدا في بعض الأحيان عدم الالتزام به التزامًا كاملاً.
ولن يمحي الإلحاد من الوجود حتى قيام الساعة، وهو في صراع دائم مع الإسلام؛ لأنه صراع بين الحق والباطل.
__________________________
(1) الأعلام للزركلي (4/ 140).
(2) موجة الإلحاد من يدق ناقوس الخطر، أحمد دعدوش، 13/ 10/ 2018م، الجزيرة نت.
(3) تفكيك خلية في شبكة دولية تنشر الإلحاد، 17/ 6/ 2016م، الشرق الأوسط.
(4) الملحدون في الجزائر مسلمون في الظاهر كفار في السر، 27/ 10/ 2016م، الشروق أونلاين.
(5) المرجع السابق.
(6) تفكيك خلية في شبكة دولية تنشر الإلحاد، 17/ 6/ 2016م، الشرق الأوسط.
(7) المغرب يحتل المرتبة الثانية عربيًّا بعدد المجاهرين بالإلحاد، 13/ 12/ 2014م، قناة العالم.
(8) اللادينيون في المغرب، هل يشكلون ظاهرة، عبدالصمد بن جودة، 19/ 2/ 2018م، بي بي سي عربي.
(9) تفكيك خلية في شبكة دولية تنشر الإلحاد، 17/ 6/ 2016م، الشرق الأوسط.