اعذريني أختي.. أنا آسف.. لقد تمت القسمة وانتهى وقتها.. قامت أمي بتقسيم كل شيء علينا، أنا وأخواتي الثلاث ولم تذكر لك شيئاً؟ ماذا أفعل يا أختي؟ إنها أمي.. لقد قامت بقسمة المال والبيت والأرض وما كان يملكه أبونا رحمه الله، وقد قبلنا بقسمتها، فهي أمنا، كما أن حاجتك للمال أقل من حاجتنا.
لا عذر لك يا أخي؛ لقد وافقَتْ قسمتها هواك فلم تنكر عليها هذا الظلم، ولم تتكلم لرفعه عنى! أوَلستُ أختك؟ أليست أمك تعرف أنني ابنة زوجها وأنني أنتسب لأبي مثلكم تماماً، وأن لي حقاً فيما تركه أبونا بعد أن توفاه الله تعالى، إنه حقي من أبي الذي كتبه الله لي ولو كنت غنية! حقي ونصيبي الذي فرضه الله لي ولم يتركه لأهواء البشر يعطونه من أرادوا ويمنعونه من شاؤوا، حقي الذي أنزل ربي فيه قرآناً يُتلى إلى يوم الدين، كيف يهنأ لكم مطعم من مال ليس حقاً لكم، ولم تسمح به نفسي أو تسامح؟! كيف طاب لكم أن تأكلوا ميراثي وتجدوا لأنفسكم الحق فيه! ماذا لو كان المحروم هو أنت يا أخي، أو أمك نفسها، أو إحدى بناتها؟!
الله تعالى أوجب على المسلم ألا يكسب المال إلا من حلال وألا يُطعم إلا الطيب
هذه حال بعض الناس في تعاملهم مع المال حين يستأثرون به لأنفسهم ولو كان مالاً حراماً، ويأكلونه ولو كان لغيرهم، ويتملكونه وهو ليس من حقهم، تغرهم زخارف الحياة الدنيا ويطول أملهم فيها؛ فيُقْدِمون على تقسيم الميراث دون الرجوع إلى شرع الله تعالى في ذلك، ويجمعون المال دون النظر أمِن حِلٍّ هو أو مِن حرام؛ فيحل عليهم شؤم هذا المال حين تمتلئ بطونهم بالمطعم الحرام، وتكتسي أجسادهم بالملبس الحرام، وتنمو أبدانهم بالغذاء الذي اكتسب بالمال الحرام، ثم هم يتعجبون قائلين: لماذا لا يستجيب الله لنا؟! ولماذا حياتنا تضيق بكثرة المشكلات؟! ولماذا أولادنا يعقوننا؟! ولماذا نزعت البركة من أموالنا؟! ألم يعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعانا إلى التحري في تحصيل المال والحرص على أخذه من حِله، فقال: «يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ لا يُبالِي المَرْءُ ما أخَذَ منه؛ أمِنَ الحَلالِ أمْ مِنَ الحَرامِ» (رواه البخاري).
الكسب الطيب
إن الإسلام دين طيب، وهو دين الأخلاق العالية والآداب الرفيعة، وذلك في كل مجالات الحياة، في أحوالنا كلها، وقد اهتم بطيب المطعم وأوجب على المسلم ألا يكسب المال إلا من حلال، وألا يطعم إلا الطعام الطيب في نفسه، الحلال في كسبه، كما اشترط الله تعالى لقبول الصدقات والنفقات أن تكون طيبة، ولم يستثن الله من ذلك أنبياءه ورسله بل أمر به جميع المؤمنين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟» (رواه مسلم).
فهل بعد ذلك يقْدِم المسلم على استحلال مال غيره لنفسه، أو يأكل مال يتيم في حجره، أو يضم ميراث غيره لماله؟! كيف يتلذذ بذلك الطعام ويقتات به؟! وكيف له أن يشعر بلذة الطاعة وأنَّي له أن يُتقبل دعاؤه إن هو فعل ذلك كله أو بعضه؟! هذا إن لم يتب ويرد الحقوق إلى أصحابها.
الطعام إذا طاب ولم يدخله الحرام طابت النفوس وزكت وصلحت الجوارح وسلمت
لقد فطر الله تعالى الإنسان على حب المال، وجعله زينة الحياة الدنيا، واختبر صاحب المال في ماله وسيسأله عنه يوم القيامة كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسأل عن عمرِهِ فيم أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ» (رواه الترمذي)، كما نهانا الإسلام عن أي كسب محرم كالتعامل بالربا، وأخذ الرشوة، والحصول على المال بالغصب والإكراه والسرقة والنهب، وكذلك ما اكتسب بالغش والزور والكذب والاحتيال كما يحصل هذه الأيام من الخداع والنصب من خلال وسائل التواصل الحديثة عبر الإنترنت والأجهزة الذكية، وقد حذر من ذلك كله فقال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» (رواه أحمد)، وقال: «لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت» (رواه أحمد).
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن المال في أيدينا إنما هو وسيلة وليس غاية، ووصف الحلال منه بالصلاح فقال: «نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للمَرءِ الصَّالحِ» (رواه البخاري)، فالمال الصالح يُصلح صاحبه، ويُصلح معه غيره، ويشارك في صلاح واستقرار المجتمع الذي يعيش فيه، حين يخلو من الممارسات المحرمة في اكتساب المال أو في إنفاقه.
البركة في الحلال الطيب
إن الطعام إذا طاب ولم يدخله الحرام طابت النفوس وزكت، وصلحت الجوارح وسلمت، وكانت العبادة والدعاء أقرب للقبول، وظهر أثر ذلك في صلاح الذرية، وذلك من البركة في الكسب الحلال، وقد قال النبي صلى الله عيه وسلم: «إنَّ الدنيا حُلْوُةٌ خَضِرَةٌ، فَمَنْ أصابَ مِنْها شَيئًا من حِلِّهِ فَذَاكَ الذي يُبارَكُ فيه» (صحيح الجامع).
ليحرص كل منا على تحري الحلال الطيب في كسبه والتعفف عن الحرام والخبيث
وقد أمرنا الله تعالى بالسعي للكسب الحلال فقال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة: 10)، وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15)، وحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على العمل لتوفير الطعام الحلال فقال: «ما أكلَ أحدٌ طَعامًا قَطُّ خيراً من أنْ يَأكلَ من عملِ يدِه وإنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كان يأكلُ من عملِ يدِهِ» (رواه البخاري)، وذكر أن النفقة من حلال هي التي تقبل ويؤجر صاحبها، فقال: «ما كسبَ الرَّجلُ كَسباً أطيبُ من عملِ يدِه وما أنفقَ الرَّجلُ على نفسِه وأهلِه وولدِه وخادِمِه فهو صدَقةٌ» (رواه ابن ماجه).
فليحرص كل منا على تحري الحلال في كسبه، والتعفف عن الحرام، وإذا ما سولت له نفسه واشتهت الحرام فليلجأ إلى الله تعالى ويدعُه: «اللهمَّ اكفِني بحلالِكَ عن حرامِكَ، وأغنِني بفضلِكَ عمَّنْ سِواكَ» (رواه الترمذي).