الأصل في الناس الاستقرار في مواطنهم من الميلاد حتى الممات، لكنه قد كُتِب على البعض أن يغادروا أوطانهم طوعًا أو كرهًا، وهؤلاء منهم من يتمكَّن من العودة لموطنه، ومنهم من يبقى في أرض غربته حتى الممات.
والهجرة لا يطيقها كل إنسان؛ فلها تكاليفها التي لا يقدر على ثمنها كل إنسان؛ فالهجرة أحيانًا تكون فرارًا من فتنة، فإن كانت هي ذاتها فتنة لصاحبها فلا داعي منها، اختيارًا لأقل الأضرار؛ فعن أَبي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبي ﷺ فَسَأَلَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: «وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وُرُودِهَا؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا»(1).
قال ابن بطال: «علم أن الأعراب قلما تصبر على المدينة لشدتها ولأوائها ووبائها، ألا ترى قلة صبر الأعرابي الذي استقاله بيعته حين مسته حُمّى المدينة، فقال للذي سأله عن الهجرة: إذا أديت الزكاة، التي هي أكبر شيء على الأعراب، ثم منحت منها وجبتها يوم ردها من ينتظرها من المساكين، فقد أديت المعروف، من حقوقها فرضًا وفضلاً، فاعمل من وراء البحار، فهو أقل لفتنتك كما افتتن المستقيل للبيعة»(2).
والهجرة سُنة ماضية لا تنقطع أبدًا حتى قيام الساعة؛ قال عَبْدُاللهِ بن عمرو: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ»(3).
وقد قال الحسن: الهجرة غير منقطعة أبدًا، وأما قوله عليه السلام: «لا هجرة بعد الفتح»(4) فالمراد الهجرة المخصوصة فإنها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام(5)؛ إذ إن الهجرة إلى المدينة المنورة لنصرة النبي ﷺ كانت واجبة(6).
1- الهجرة إلى الله تعالى:
الهجرة إلى المدينة المنورة جمعت الهجرة إلى الله وإلى رسول الله ﷺ وإلى المكان المخصوص.
وبعد فتح مكة أصبحت الجزيرة العربية كلها لله ولرسوله، فليمكث المسلم بأي مكان؛ فكلها أصبحت أرض الإسلام، وبقي الولاء لرسول الله ﷺ وإجابة داعيه للجهاد دون تخلُّف من أحد.
وبعد وفاة الرسول ﷺ لم تعُد هناك هجرة مخصوصة لمكان بعينه أو لشخصٍ ما، وبقيت الهجرة العامة لله تعالى، أو يمكن القول: بقيت الهجرة على أصلها الأول وهو الهجرة لله كما قال إبراهيم أو لوط عليهما السلام: (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (العنكبوت: 26).
فمن كانت هجرته لأمر من أمور الدنيا وحظ من حظوظها، ولم يجعل الله نصب عينيه، فسوف تكون رحلة أو نزهة أو عملاً أو سياحة، أو زواجًا.. إلخ، ولن ينطبق عليها المعنى الشرعي للهجرة، وإن أُطلق عليها المعنى اللغوي.
فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﷺ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»(7).
والحديث في رجل خرج «من مكة مهاجرًا في الظاهر قد شمله الطريق مع الناس، ولم يكن مراده الله ورسوله، وإنما كان مراده تزويج امرأة من المهاجرات قبله أراد تزويجها، فلم يعد في المهاجرين، وسمي: مهاجر أم قيس»(8).
2- وقوع الأجر على الله تعالى:
إن المهاجر لا يمكنه حمل ماله على ظهره وهو خارج من وطنه، ويترك عقاراته وسياراته وأطيانه.. إلخ إن كان من أهل اليسار، ويخرج بنفسه فارًّا إلى الله تعالى، فمنهم من يصل إلى وجهته، ومنهم من يهلك في طريق خروجه، فلا هو مكث في وطنه، ولا بلغ مقصده المأمول.
وهؤلاء الهلكى في الطريق يُطلق عليهم اسم المهاجرين كذلك رغم عدم وصولهم، وأجرهم أجر المهاجرين أيضًا.
فطالما أنهم أرادوا الله فقد وقع أجرهم على الله؛ قال تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء: 100)، فلهم الثواب الكامل التام؛ لأنهم فارقوا أوطانهم وعشيرتهم، وإن لم يبلغوا دارَ هجرتهم باخترام المنية إيَّاهم قبل بلوغهم إياها(9).
وصاحب هذه الآية التي نزلت فيه طلب عكرمة اسمه أربع عشرة سنة حتى وجده(10)، وهو رجل من خزاعة اسمه ضمرة بن العيص.
3- السعة في الرزق:
إن من خرج في سبيل الله لا يخذله الله أبدًا، ولا يجمع عليه غربة وفقرًا؛ فقد قال تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) (النساء: 100)، قال ابن كثير: قوله: (وَسَعَةً) يعني: الرزق، قاله غير واحد، منهم: قتادة، حيث قال في قوله: (يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) أي، والله، من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى(11).
4- الثقة في موعود الله تعالى:
سيد المهاجرين ﷺ وهو في طريق خروجه من مكة ميممًا وجهه قِبل المدينة طيَّب الله خاطره بأنه سوف يعود مرة أخرى إليها فأنزل عليه: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (القصص: 85)(12).
فلا ييأس المظلوم المطارد المهاجر من روح الله؛ فإن اشتاق لبلده فلعله يأتي يوم يعود فيه إلى وطنه في عزة وكرامة.
____________________________
(1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب: هِجْرَة النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ.. ح(3923).
(2) شرح ابن بطال (3/ 459).
(3) جزء من حديث أخرجه أحمد في المسند، ح(6871)، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح، (11/ 380): أخرجه أحمد، وسنده لا بأس به.
(4) جزء من حديث أخرجه البخاري في الجهاد، باب: فضل الجهاد والسير.. ح(2783) من حديث ابن عباس.
(5) مفاتيح الغيب للرازي، (15/ 169).
(6) انظر: تفسير القرطبي، (5/ 308).
(7) أخرجه البخاري في النكاح، باب: مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى، ح(5070).
(8) شرح ابن بطال (7/165).
(9) انظر: تفسير الطبري (9/ 113).
(10) انظر: تفسير القرطبي (1/ 26).
(11) تفسير ابن كثير (2/ 391).
(12) انظر: السابق (6/ 260).