أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليَّ»، قلت: يا رسول الله، أأقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: «نعم»، فقرأت سورة «النساء» حتى أتيت هذه الآية: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (النساء: 41)، قال: «حسبك الآن»، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان، ففي هذا بيان لحال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البكاء من خشية الله، فما آثار البكاء من خشية الله؟
أولاً: دليل على صدق الإيمان:
قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة: 83)، وأوضح سبحانه وتعالى حال بعض المؤمنين الذين لم يستطيعوا الخروج للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يبكون، فقال: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة: 92).
ثانياً: الاقتداء بالأنبياء والرسل:
إن من صفات الرسل التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم أنهم يبكون من خشية الله، فقد قال الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم: 58).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير البكاء من خشية الله، فقد أخرج الترمذي في السنن عن أبي ذر الغفاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنِّي أرَى ما لا ترَونَ، وأسمعُ ما لا تسمَعون، أطَّتِ السماءُ وحق لها أن تَئِطَّ؛ ما فيها موضِعُ أربعِ أصابِعَ إلا ومَلَكٌ واضِعٌ جبهَتَهُ لله ساجدًا، واللهِ لو تَعلمونَ ما أعْلَمُ لضَحِكْتُمْ قليلًا ولبَكَيتُمْ كثيرًا، وما تَلَذَّذْتُمْ بالنساءِ على الفُرُشِ، ولخَرَجْتُمْ إلى الصَّعُدَاتِ تجْأَرونَ إلى اللهِ».
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ، قال: رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصلِّي وفي صدرِه أزيزٌ كأزيزِ المِرجَلِ منَ البُكاءِ.
ثالثاً: التشبه بالسلف الصالح:
فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم من التابعين يبكون من خشية الله كثيراً، ففي صحيح البخاري: كان يُعرَف عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه رجل رقيق، إذا قرأ القرآن غلبه البكاء، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثير البكاء حتى ظهر على وجهه خطان أسودان، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكي حتى تخضل لحيته من البكاء، فسئل في ذلك فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج فما بعده أشد منه»، وبكى الحسن، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني الله غداً في النار ولا يبالي.
رابعاً: الوقاية من قسوة القلب:
إن البكاء من خشية الله دليل على رقة القلب، فقد أنكر الله تعالى على من قست قلوبهم، فلم يبكوا من خشية الله وتأثراً بآياته، حيث قال تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ {59} وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ) (النجم)، وإن البكاء علامة على التضرع إلى الله تعالى، وتؤدي قسوة القلب إلى الامتناع عن ذلك، فقد قال الله تعالى: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 43).
خامساً: الدخول في ظل العرش يوم القيامة:
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: الإمَامُ العَادِلُ، وشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ، ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ اجْتَمعا عليه وتَفَرَّقَا عليه، ورَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ، فَقَالَ: إنِّي أخَافُ اللَّهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ، أخْفَى حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».
سادساً: النجاة من العذاب يوم القيامة:
روى الحاكم في المستدرك وأقره الذهبي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة».
وروى الترمذي بسند حسن عن عقبة بن عامر قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما النَّجاةُ؟ قال: «أمسِكْ عليكَ لسانَكَ، وليسعْكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتِكَ»، فالبكاء على الخطيئة من خشية الله سبيل إلى النجاة من العذاب يوم القيامة.
سابعاً: عدم دخول النار:
أخرج الترمذي في السنن عن عبدالله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عَينانِ لا تمسُّهما النَّارُ: عينٌ بَكَت من خشيةِ اللَّهِ، وعَينٌ باتت تحرُسُ في سبيلِ اللَّهِ»، وفي سنن الترمذي أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يلِجُ النارَ رجلٌ بكى من خشيةِ اللهِ حتى يعودَ اللبَنُ في الضَّرعِ»، وروى ابن ماجة بإسناد حسن عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد مؤمن يخرج من عينيه دموع وإن كانت مثل رأس الذباب من خشية الله لم تصب شيئاً من خروجه إلا حرمه الله على النار».
ثامناً: الضحك في الجنة:
أخرج الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك قال: تلا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ هذه الآيةَ: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة: 24)، فقال: «أُوقد عليها ألفُ عامٍ حتى احمرتْ، وألفُ عامٍ حتى ابيضتْ، وألفُ عامٍ حتى اسودتْ، فهي سوداءُ مُظلمةٌ لا يُطفى لهيبُها»، قال: وبين يديْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلٌ أسودُ فهتف بالبكاءِ، فنزل عليه جبريلُ عليه السلامُ فقال: من هذا الباكي بين يديك؟ قال: «رجلٌ من الحبشةِ»، وأثنى عليه معروفًا، قال: فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ: «وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي لا تبكي عينُ عبدٍ في الدنيا من مخافتي إلا أكثرتُ ضحِكَها في الجنَّةِ».