تدبُّر القرآن الكريم هو أحد أعظم الأعمال التي يمكن للمسلم القيام بها، فهو يفتح الأبواب لفهم عميق لكلام الله تعالى، ويمنح القلب السكينة، ويزيد الإيمان، ويعين على تطبيق الشريعة في حياة المسلم اليومية، يقول الله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمد: 24)؛ لذا يجب أن يفتح العبد أقفال قلبه ليعي معاني الآيات ويستهدي بها، فتدبر القرآن لا يتأتى بمجرد قراءة سطحية، بل هو تأمل عميق وتفاعل مع الآيات بهدف فهم مراد الله والعمل به، وفيما يلي 6 وسائل معينة على تدبُّر كتاب الله عز وجل.
1- إخلاص القلب وتقواه:
لتحقيق التدبر الحقيقي يجب أن تكون النية خالصة لله تعالى، وأن يمتلئ القلب بتقوى الله كي يتخلى عن أي أهواء تعيق تدبر القرآن، يقول الله تعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم) (البقرة: 282)، وقد فسر القرطبي هذه الآية مبيناً أثر التقوى على العلم قائلاً: وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه؛ أي يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقاناً؛ أي فيصلاً يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) (الأنفال)، والله أعلم(1).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن تعلَّم علمًا مما يبتغى به وجهُ الله عز وجل لا يتعلَّمه إلا ليصيب به عرَضًا مِن الدنيا، لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة»(2).
2- فهم المعاني والتفسير:
من الضروري فهم معاني القرآن من خلال قراءة التفاسير، يقول تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) (البقرة: 121)، وقد أكد ابن مسعود أهمية فهم القرآن في شرحه لمعنى حق تلاوته كما يلي: والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلالَه، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأوَّل منه شيئاً على غير تأويله(3).
فالعلم بالقرآن هو المطلوب، وقد جعلت السُّنة النبوية الأفضلية تعلم القرآن، فعن عُثمانَ بنِ عفَّانَ قالَ: قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إِنَّ أفضَلَكُم مَن تَعَلَّمَ القرآنَ وعَلَّمَهُ»(4)، فلا بد للمسلم أن يعتني بفهم القرآن كما يعتني بتجويده.
3- قراءة القرآن بترتيل وتدبر:
الترتيل يسهم في تدبر المعاني، ولذا أمر الله تعالى بترتيل القرآن في قوله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل: 4)، فإن الترتيل يساعد على إيصال المعاني للقلب والتفكر في كل كلمة والتفاعل معها، وقد حثت الأحاديث على تجويد الترتيل، كما جاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»(5).
وإن تلاوة القرآن حق التلاوة مما يحلق بالروح عاليًا، قال رجل لأبي سعيد الخُدْري: أوصني يا أبا سعيد، قال: عليك بذكر الله، وتلاوة القرآن، فإنها روحك في السماء، وذكرك في أهل الأرض(6)، فتلاوة القرآن بالترتيل لها ذلك الأثر العظيم على الروح والقلب مما يُسهل حصول التدبر.
4- التفكر في القَصص القرآني:
القَصص القرآني يحمل دروسًا عظيمة تحمل إلى القلوب العبرة، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: 111)، وقد أكد أهمية التفكر بالقصص اعتناء النبي صلي الله عليه وسلم بضرب الأمثال والقصص، كما في حديث النعمان بن بشير: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول: «إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ وبينهما أمورٌ مُشتبِهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه، ومن وقع في الشُّبهاتِ وقع في الحرامِ، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشكُ أن يرتعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمًى، ألا وإنَّ حمى اللهِ محارمُه، ألا وإنَّ في الجسدِ مُضغةً إذا صلُحتْ صلُح الجسدُ كلُّه وإذا فسدتْ فسد الجسدُ كلُّه ألا وهي القلبُ»(7).
فإن القَصص أقرب إلى النفس، وأسهل لفهم الموعظة، يقول د. محمد لطفي الصباغ: والقصة النبوية وسيلة من وسائل التصوير، ثُمَّ إن التصوير بالقصة من أجمل الأساليب وأعمقها أثرًا في النفس(8)، فيجب العناية بفهم القصص وتلقي ما فيها من عظة.
5- تطبيق ما يُقرأ في الحياة اليومية:
الحرص على تطبيق الأوامر باعث قوي للتدبر، يقول الله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) (البقرة: 129)، فلتزكية النفس أثر في تلاوة القرآن وتعلمه، وقد نقل النووي عن الحسن البصري في آداب حملة القرآن قوله: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها بالنهار(9)، فتطبيق ما يُتدبر من القرآن شغل السلف الصالح.
6- الاستماع إلى تلاوة القرآن:
الاستماع إلى التلاوات المختلفة للقرآن يعين على التدبر، قال الله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف: 204)، وكذلك كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمع القرآن من غيره، فعن عبدالله بن مسعود قال: قالَ لي النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ»، قُلتُ: أأقْرَأُ عَلَيْكَ وعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: «فإنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِن غَيرِي»، فَقَرَأْتُ عليه سُورَةَ النِّسَاءِ، حتَّى بَلَغْتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (النساء: 41)، قالَ: «أمْسِكْ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ»(10).
_____________________
(1) تفسير القرطبي (3/ 406).
(2) أخرجه أبو داود، وابن ماجة، وأحمد، وصححه الألباني.
(3) تفسير ابن كثير (1/ 175).
(4) رواه مسلم.
(5) رواه البخاري، ومسلم.
(6) مجمع الزوائد (4/ 218).
(7) رواه مسلم.
(8) التصوير الفني في الحديث النبوي (498).
(9) التبيان في آداب حملة القرآن، ص29.
(10) رواه البخاري.