وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعوة علنية ومباشرة لرأس النظام السوري بشار الأسد للقاء معه في تركيا أو أي بلد آخر، وهي دعوة أثارت نقاشاً كبيراً في مدى جديتها وعزم أنقرة على استعادة علاقات كاملة مع النظام السوري بعد أكثر من 12 عاماً من القطيعة، بل والمواجهة غير المباشرة، والمباشرة أحياناً.
ثمة من يستبعد وصول العلاقات بين الجانبين إلى مرحلة تطبيع كامل، وهناك من يرى أن الأمر بات قاب قوسين أو أدنى؛ ما يدفع لمحاولة البحث في الأمر من جميع جوانبه، الدوافع والمصالح والعقبات والمراحل والواقع الحالي لمحاولة استشراف المستقبل.
إن النظر في السنوات الـ12 الماضية من عمر العلاقات بين أنقرة ودمشق تقول: إنها لم تبق على حال واحد، وإنما انتقلت من مرحلة لأخرى لأسباب عديدة، بعضها متعلق بالوضع السوري الداخلي؛ سياسياً وميدانياً، وبعضها الآخر مرتبط بمواقف الأطراف الإقليمية والدولية، وبعضها الثالث مرتبط بتطورات تركية داخلية ولا سيما ما يلي قوة أردوغان وحزب العدالة والتنمية في مقابل المعارضة.
في السنة الأولى للثورة السورية سعت أنقرة بكل جهدها لإقناع الأسد بإجراء إصلاحات واسعة لمنع تدهور الأوضاع، ثم أتت القطيعة السياسية بسحب السفير ودعم المعارضة سياسياً، ثم دعم المعارضة المسلحة بشكل غير معلن، مع إعلان النظام السوري حكومة غير شرعية، ثم كان الحديث عن حل سياسي ومرحلة انتقالية، ثم الحديث عن مسار سياسي «لا يبقى الأسد» في نهايته في السلطة، وعلى التوازي كان التدخل العسكري المباشر ابتداءً من صيف 2016م والمستمر حتى اللحظة لمنع تأسيس كيان سياسي مرتبط بحزب العمال الكردستاني الذي يخوض حرباً انفصالية ضد تركيا التي تصنفه على قوائم المنظمات الإرهابية.
وفي هذا الإطار، كان مسار أستانا الانعطافة الأهم ربما في مسار الثورة السورية ومقاربة أنقرة لها، حيث مهدت لوقف الأعمال القتالية بشكل كبير، وهو ما أشار له وزير الخارجية التركي خاقان فيدان في لقاء تلفزيوني في يونيو الماضي.
وعلى صعيد العلاقات مع النظام، فقد أبقت تركيا قناة أمنية سرية برعاية روسية لمنع الاحتكاك والصدام قدر الإمكان، ثم تطورت هذه القناة نحو علاقة أمنية – عسكرية، فتصريحات سياسية، فلقاء عابر بين وزيري خارجية البلدين، ثم اجتماع رسمي بينهما في قمة رباعية في موسكو جمعت مسؤولين من تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري.
فهل تسعى أنقرة اليوم لقفزة كبيرة أخرى، أكبر من كل ما سبق، نحو تطبيع كامل مع النظام؟ وما الذي تتوخاه من مكاسب في هذه الخطوة المحتملة؟
ينبغي الإشارة ابتداءً إلى أن تحسين العلاقات مع النظام السوري ليس مساراً منبتّاً، وإنما أتى في سياق أوسع لتحسين العلاقات مع عدد من الأطراف الإقليمية في مقدمتها السعودية والإمارات ومصر والبحرين والكيان الصهيوني، إضافة لحوارات أولية مع أطراف أخرى مثل اليونان وأرمينيا.
والأسباب الرئيسة الدافعة لهذا المسار، الذي حقق اختراقات مهمة منذ بدايته عام 2021م، هي رغبة الإدارة الأمريكية الجديدة حينها، والدوافع الاقتصادية في معظم الدول المذكورة، وتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية لاحقاً، فضلاً عن استنزاف مقدرات هذه الأطراف في النزاعات الإقليمية دون نتيجة حاسمة لأحد الطرفين، وطي صفحة ثورات «الربيع العربي» بالكامل من جميع الأطراف.
إضافة لما سبق من المشتركات بين مسار التطبيع العام في المنطقة ومسار التطبيع مع النظام، يدفع أنقرة لتطوير العلاقات مع دمشق -وفق ما يصرح المسؤولون الأتراك- ملفان رئيسان؛ مكافحة المنظمات الانفصالية المرتبطة بالعمال الكردستاني في الشمال السوري، والعمل على عودة/ إعادة العدد الأكبر الممكن من اللاجئين السوريين في تركيا إلى سورية، فالملف الأول يعتمد على فكرة أن منع قيام كيان سياسي انفصالي في الشمال السوري مصلحة مشتركة للطرفين، والملف الثاني يقوم على افتراض أن عودة العلاقات والهدوء سيساهمان بعودة السوريين.
ويمكن إضافة العامل الاقتصادي كذلك، حيث يفترض بتحسين العلاقات أن يفتح أبواباً إضافية للتجارة البينية، بيد أنه لا ينبغي التقليل من شأن الديناميات الداخلية في تركيا في مسار العلاقات مع دمشق؛ حيث إن الضغوط تتزايد على العدالة والتنمية والرئيس التركي من مختلف أحزاب المعارضة بخصوص اللاجئين ومن حزب المعارضة الرئيس (الشعب الجمهوري) بخصوص العلاقات مع النظام.
وهنا، تبدو دعوات أردوغان المتكررة للقاء بالأسد هدفاً بحد ذاتها، إذ تقدم للمواطن التركي رسالة واضحة بالاهتمام والعمل على حل مشكلة السوريين في البلاد، وفي معظم الأحيان تكون الانطباعات أهم من الحقائق والوقائع في عالم السياسة، ما يجعل هذا العامل في مقدمة الدوافع لنداءات الرئيس التركي المتكررة.
في المقابل، ثمة مصلحة جوهرية للنظام السوري في علاقات طبيعية وكاملة مع تركيا، حيث هي آخر الدول الداعمة للمعارضة، وبالتالي سيشكل اعترافها الكامل به مع علاقات طبيعية انتصاراً شبه نهائي له على فصائل المعارضة، وفتحاً لصفحة جديدة يبدو فيها أقوى حتى في المسار السياسي والدستوري، ورغم ذلك أتت تصريحات الأسد سلبية بخصوص دعوة أردوغان، ولئن رأى الكثيرون أنه رفض الدعوات، إلا أننا نرى أنه اشترط لها ولم يرفضها، وهناك فارق كبير جداً بين الأمرين؛ أي يمكن وضع تصريحات الأسد في إطار أوراق التفاوض، فضلاً عن احتمال وجود تحفظ من أطراف خارجية مثل طهران، وإن كمنا نظن أن تحفظها تراجع كثيراً عن السابق.
العقبات الرئيسة أمام هذا المسار تتبدى في موقف النظام الرافض ظاهرياً أو المشترط واقعياً، وإرث السنوات التي مرت منذ بداية الثورة السورية، والتواجد العسكري التركي على الأراضي السورية، ومواقف الأطراف الإقليمية والدولية، واستعصاء الحل السياسي في سورية.
بيد أن نظرة معمقة على هذه العقبات تقول: إن معظمها إن لم يكن كلها قابل للحل، وإن بعضها قد تراجع واقعه وأثره كثيراً في السنوات الأخيرة؛ فموقف النظام بات أقرب لتطوير العلاقات مع اشتراطات ما، والتحفظ الإيراني قد يكون لَانَ مع الرئيس الجديد، وقبل ذلك مع تطورات معركة «طوفان الأقصى» وتداعياتها الإقليمية الحالية والمتوقعة، والوجود العسكري على الأرض ليس عائقاً أمام علاقات جيدة مع بغداد، وقد لا يكون عائقاً أمام علاقات طبيعية مع دمشق، وإرث السنوات السابقة تجاوز الطرفان معظمه مع تطور العلاقات سالف الذكر والتفصيل، والحل السياسي قد يأتي لاحقاً ضمن صفقة أوسع وإن بدا متعثراً اليوم.
لقد أرتنا مسيرة تطبيع العلاقات في المنطقة وخصوصاً بين تركيا وباقي الأطراف الإقليمية أن الشروط المسبقة لا تمنع تطبيع العلاقات، وإنما تتحول مع الوقت إلى ملفات للتفاوض والحوار، حصل ذلك مع مصر والإمارات وحتى مع الكيان الصهيوني، ومرجح أن يحصل مع النظام السوري؛ وبالتالي، لا يوجد اليوم عقبة حقيقية يمكن أن تمنع تطوير العلاقات بين الجانبين في حال توفرت الإرادة السياسية لديهما، والإرادة السياسية متوفرة بوضوح وعلنية في أنقرة، ونعتقد أنها متوفرة إلى حد ما لدى دمشق وإن لم يُعبّر عنها بنفس الوضوح والعلنية لأسباب تتعلق بتقوية أوراق التفاوض وتوخي مكاسب أكبر من عملية التقارب والتطبيع.
وعليه، فإن ما نرجحه هو تطبيع العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الجانبين في المدى المنظور، بما في ذلك لقاء محتمل بات برأينا مرتقباً بين أردوغان، والأسد، وربما يسبقه لقاء بين وزيرَيْ الخارجية، لكن اللقاء بين أردوغان، والأسد لم يعد مستبعداً جداً كما كان قبل سنوات، بل هو محطة مرتقبة بعد كل ما حصل على صعيد العلاقات بين الجانبين، وبعد لقاء أردوغان مع رؤساء دول كان بينها وبين تركيا مواجهات مباشرة وغير مباشرة في المنطقة؛ إذ إن تدوير زوايا الخلاف مع القوى الإقليمية وتحسين العلاقات معهم قرار حاسم اتخذته أنقرة ومصرّة عليه بعد مراجعة تقييمية للعقد الماضي في سياستها الخارجية.