حين يقع النزاع بين الناس، ويعتدي أحد على غيره، فيوقع به الأذى، يلجأ هذا المظلوم إلى القضاء، آملاً أن يأخذ حقه النفسي والمادي ممن ظلمه أو تعدى عليه، فإذا تحقق له ذلك فإن المجتمع ينعم بالأمن والأمان، وإلا فإن شريعة الغاب تصبح حاكمة بين الناس، ومن هنا كانت حاجة المجتمع إلى القضاء في غاية الأهمية، ولهذا حرص الإسلام على حسن إعداد القاضي، بحيث تتحقق من خلاله العدالة وحفظ الحقوق.
وهذه بعض الواجبات العلمية التي تسهم في إصلاح النظام القضائي(1).
1- الاحتكام إلى القرآن والسُّنة:
يرجع السبب في الاعتماد على أحكام القرآن والسُّنة في المجال القضائي إلى أمرين؛ الأول: حث القرآن الكريم على ذلك، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء: 59).
وطاعة الله سبحانه هي العمل بما في كتابه، وما بيّنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الحقيقة طاعة لله، أما أولو الأمر فهم الذين يفهمون كتاب الله ويستثمرونه في الحوادث، ويفهمون سُنة رسوله القولية والفعلية، فهم قادة الأمة في الدين، الذين يدركون أسراره، ويفهمون أغراضه، ويحيطون بأحوال زمانهم وأمتهم إحاطة تمكنهم من تطبيق الكتاب والسُّنة تطبيقاً صحيحاً(2).
الأمر الثاني: كونهما يتميزان بصفة العصمة التي تدعو إلى الاحترام والانقياد، فكتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المصدر الأسمى من مصادر التشريع، وهو في المقام الأول لا يعدل عنه متى وجد نص للحادث فيه، وفي السُّنة المنقولة نقلاً صحيحاً موثوقاً به عصمة، لأنها وحي قولي أو عمل أقر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في المكان الثاني بعد كتاب الله تعالى.
وإذا كان إصلاح النظام القضائي من الناحية العلمية مرتبطاً بالاحتكام إلى القرآن والسُّنة، فلا بد من دراستهما واستنباط الأحكام منهما وفق القواعد العلمية الصحيحة، وفي هذا حماية للأمة من الانحراف الناتج عن الخلل في فهم النصوص الشرعية، فالقرآن الكريم والسُّنة هما المصدر المؤسس للفكر السليم، والواقي من خطر السلوك الذميم، والمرشد إلى الخير العميم.
2- الاقتباس من جميع المذاهب الإسلامية:
يحتاج النظام القضائي إلى اقتباس التشريعات والقوانين التي تراعي أحوال الناس من جميع المذاهب الإسلامية، فالشريعة الإسلامية فيها من السماحة والتوسعة ما يجعلنا نجدُ في تفريعاتها وأحكامها في القضايا المدنية والجنائية كلّ ما يفيدنا وينفعنا في كلّ وقت، وما يوافق رغائبنا وحاجاتنا وتقدمنا في كل حين، ونحن في ذلك كله ملازمون لحدود شريعتنا(3).
فقد اتسعت الأحكام والتفريعات في المذاهب الإسلامية -وإن اختلفت فيما بينها- لتشمل كل ما هو نافع ومفيد، فعلى القضاة أن يرجعوا إلى مذاهب الفقه المعتمدة، واختيار ما صح دليله، وما قام البرهان على أن فيه مصلحة الناس من أقوال أئمة الهدى وفقهاء الإسلام؛ وذلك حرصاً على تحقيق مصالح الناس في ضوء المنهج الإسلامي السليم.
3- الدعوة إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية:
يعتمد إصلاح القضاء على حسن التقريب بين المذاهب الإسلامية، وذلك لحماية الأمة من خطر الافتراق والتعصب الأعمى، فيجب العمل على إزالة الفروق المذهبية أو تضييق شقة الخلاف بينها؛ لأن الأمة في محنة من هذا التفرق ومن العصبية لهذه الفرق؛ ولهذا يجب أن يُدرَس الفقه دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها في الأدلة.
وفي هذا دعوة إلى دراسة المذاهب الفقهية من غير تحيز أو عصبية من أجل التقريب بين المذاهب الإسلامية، وإن هذا التقريب القائم على إفادة كل مدرسة من غيرها ليس مستحيلاً، لأن المدارس الفقهية كلها تتفق حول المبادئ الأساسية، وتختلف فقط حول الأحكام الشرعية التي تستنبطها من هذه المبادئ؛ فإذا كانت المبادئ الأساسية واحدة بين المذاهب الفقهية، فإن التقريب بينها أمر يسير.
وقد سعى الإمام محمد مصطفى المراغي إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية، وذلك في المحادثات التي دارت بينه –كشيخ للأزهر– والزعيم الإسماعيلي أغا خان (1294 – 1376هـ/ 1877 – 1957م)، في 11 فبراير 1938م، حيث تم الاتفاق على تكوين هيئة للبحث الديني، تستهدف:
أ- تأكيد روابط الصداقة بين المسلمين في كافة أنحاء الأرض.
ب- إيجاد تضامن بين الهيئات التعليمية في البلاد الإسلامية يكون من ورائه نشر التعليم على وجه العموم، ونشر الثقافة الإسلامية على وجه الخصوص.
جـ- العمل على تبسيط قواعد الدين الإسلامي وتعاليمه.
د- محاولة التوفيق بين المسلمين مهما اختلفت مذاهبهم وفرقهم(4).
والناظر في بنود هذا الاتفاق يجد أنها تسعى إلى تحقيق الوحدة بين المسلمين من خلال التضامن بين الهيئات التعليمية بهدف تبسيط القواعد الدينية ونشر الثقافة الإسلامية التي تدعو إلى التقارب والاصطفاف وتنبذ التباعد والاختلاف.
4- فتح باب الاجتهاد في القضايا المستجدة:
ليس من المعقول أن يوضع قانون أو كتاب في القرن الثاني أو الثالث الهجري ثم نأتي بعد عشرة قرون أو أكثر لنعتمد على كل ما ورد في هذا القانون من تفصيل، لأن الأحوال تتغير، والحياة تتزاحم بالمستجدات في كل الجوانب.
وإن من ينظر في أقوال الأئمة وما وقع بينهم وبين أصحابهم من خلاف يجد أن التجديد في الأحكام الشرعية ميسورٌ لنا، ويجد بطلان الدوام لأحكام معينة وبقائها حيث يبقى الدهر من الأمور البدهية؛ ومعنى هذا أن المسائل الفقهية ما دامت غير قطعية فهي قابلة بحكم الشرع للتجديد والتغيير.
وإن من الإسراف في التعبير أن يقال عن الأحكام التي استنبطها الفقهاء، وفرّعوا عليها، واختلفوا فيها، وتمسكوا بها حينا، ورجعوا عنها حيناً: إنها أحكام الدين، وإن من أنكرها فقد أنكر شيئاً من الدين، فإنما الدين هو الشريعة التي أوصى الله بها إلى الأنبياء جميعاً، وأما القوانين المنظِّمة للتعامل والمحققة للعدل والدافعة للحرج فهي آراء للفقهاء مستمدة من أصولها الشرعية، تختلف باختلاف العصور والاستعدادات، تبعاً لاختلاف الأمم ومقتضيات الحياة فيها، وتبعاً لاختلاف البيئات والظروف(5).
وهنا يتبين أن بعض الأحكام والتشريعات الصادرة عن الفقهاء كانت تلبية لحاجة زمانهم، فإذا دعت الحاجة إلى استنباط أحكام أخرى تناسب المستجدات الواقعية فإنه يجب على الفقهاء أن يجتهدوا في الوصول إليها، من أجل التيسير على الناس والسعي في حل مشكلاتهم، في إطار المنهج الإسلامي الذي يوجب على العلماء فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإحاطة بأحوال الناس لاستنباط الأحكام التي تحقق مصالحهم في ضوء الكتاب والسُّنة.
_______________________
(1) أسس إصلاح النظام القضائي: د. رمضان حميدة محمد، ص 10.
(2) الإمام المراغي وجهوده في الدعوة: د. أحمد عمر هاشم، ص 73.
(3) الإصلاح الديني في القرن العشرين: د. محمد عمارة، ص 20.
(4) المرجع السابق، ص 23.
(5) النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين: د. محمد رجب البيومي (1/ 428).