لا يخفى على كل عاقل أن الدراسة النظرية تحتاج إلى التطبيق العملي، لاختبار صحة ما ذهبت إليه، كما لا يخفى أيضاً أن الممارسة العملية القائمة على العشوائية والإغفال المتعمد للقواعد النظرية والدراسات العلمية الأصيلة، أمر لا يؤدي إلى السلامة والنجاة، بل قد يؤدي إلى الدمار والهلاك.
وفي مجال إصلاح القضاء ينبغي أن يضاف إلى التأصيل النظري واجب عملي يسهم في تحقيق الثمرة المرجوة منه، ومن الواجبات العملية لإصلاح نظام القضاء ما يأتي(1):
1- ضبط القوانين والأحكام القضائية:
إن الإصلاح العملي للنظام القضائي يحتاج إلى تعديل بعض القوانين القائمة وإصدار قوانين جديدة تتفق مع الشريعة الإسلامية، وإن تنفيذ هذه المهمة يحتاج إلى تضافر جهود القضاة والوقوف على مشكلات الأُسر، ومآزق الطلاق، ومعضلات النفقة، وأزمات الميراث، ثم تصفح أقوال الفقهاء من جميع المذاهب، لاختيار ما يريح الناس عن بصيرة موغلة في أسرار التشريع.
بالإضافة إلى تنظيم القضاء الشرعي من الناحية القانونية والنظامية على وجه يخفف على الناس كثيراً مما كانوا يلاقونه من عنت ومشاق أمام جمود بعض النصوص وتعقيد طرق التقاضي.
أما ضبط الأحكام القضائية فيحتاج إلى رفع كفاءة القضاة من الناحية العملية، وذلك من خلال التفتيش على المحاكم، ويمكن تحقيق ذلك من خلال مطالبة كل محكمة بأن ترسل كشفاً شهرياً بملخص كل قضية، وبيان حكم المحكمة فيها، ثم مراجعة هذه الكشوف من خلال لجنة عليا، لإثبات الصواب ومراجعة الخطأ إن وجد، ويطلبون من القاضي بعض التفاصيل، ويوجهونه فيما يعمل لو عرض عليه مثل هذا الأمر بصورة أخرى في قضية أخرى.
2- الإصلاح بين الخصوم:
يسهم الإصلاح بين الخصوم قبل إصدار الأحكام عليهم في ضبط النظام القضائي، استناداً إلى قول الله تعالى: (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) (الحجرات: 9)؛ فإذا اقتتل اثنان أو جمعان من المسلمين فعلى الإمام الإصلاح بينهما، بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه، وبالنصح وإزالة الشبهة.
والناظر في القانون الإلهي لحل الخلافات الزوجية يجد أنه يعتمد على الإصلاح بينهما، حيث قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء: 35).
وقد أوصى الإمام محمد عبده تلميذه محمد المراغي ليلة سفره إلى السودان لتولي القضاء عام 1904م قائلاً: أنصحك أن تكون للناس مرشداً أكثر من أن تكون قاضياً، وإذا استطعت أن تحسم النزاع بين الناس بصلح فلا تعدل عنه إلى الحكم، فإن الأحكام سلاح يقطع العلاقات بين الأسر، والصلح دواء تلتئم به النفوس وتداوى به الجراح(2)، فالإصلاح في النظام القضائي لا يعتمد على إصدار الأحكام السليمة فقط، وإنما يمتد إلى إرشاد الخصوم إلى ما فيه الخير والصلاح.
2- التيسير في الفتوى:
يعد التيسير في الفتوى وسيلة عملية مهمة في سبيل إصلاح النظام القضائي؛ لأن التيسير يسهم في الرفق بالناس ورفع الحرج عنهم، حيث إن القواعد التي وضعها الفقهاء لم توضع إلا لصالح البشر، ومن أجل تنظيم علاقاتهم المشتركة، وعليه فيجب أن تمتثل لحالات الضرورة وتسعى إلى رفع الحرج عن الناس؛ ومن هنا يجب على القاضي أن يحكم بالنصوص التي تؤدي إلى رفع الحرج عن الناس؛ فقد نادى الإسلام بالتيسير لا التعسير، حيث قال الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)، وقال عز وجل: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28).
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن وقال لهما: «يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا»(3)، ففي الحديث أمر بالتيسير والرفق.
ولهذا قامت القواعد الفقهية في الإسلام على التيسير ورفع الحرج(4)، ومن هنا وجب على المفتي أن يبحث في كلام الفقهاء عن كل ما من شأنه التيسير على الناس، ووجب على القاضي أن يختار من بين هذه الأقوال ما يحقق مصلحة الناس ويرفع الحرج عنهم.
بل إن بعض الفقهاء أجاز للقاضي تطبيق القول الضعيف في المذهب الفقهي عندما يتأكد القاضي من وجود حالة الضرورة، بشرط ألا يكون الغرض من الالتجاء إلى القول الضعيف الشهوة والغرض اتباعاً للهوى وابتغاء حطام الدنيا(5)، وفي هذا دعوة إلى مراعاة أحوال الناس، والرفق بهم والتيسير عليهم في الأحكام القضائية.
4- القدوة الإسلامية في الممارسات القضائية:
مما لا شك فيه أن الدعوة بالقدوة والسلوك أعظم تأثيراً وأقوى حجة وانتشاراً؛ لأن حال فرد واحد في مائة بالقدوة أعظم وأكثر تأثيراً من حال مائة متحدث في شخص واحد.
وإن إصلاح القانون إصلاح لنصف القضاء فحسب، أما النصف الآخر فهو بين القاضي وبين نفسه، لأن عليه أن يفهم الوقائع أولاً كما هي بعد تلمّس أدلتها ونقدها، وبعد الموازنة بينها، وعليه أن يبذل الجهد لئلا يطول الوقت، فيفلت الحق من يد صاحبه، وعليه أن يُشعر الناس جميعاً بالاطمئنان إليه، وأن يحملهم على الرضا بحكمه ولو كان عليهم، بسيرته الطيبة، وبُعده عن الشبهات(6).
وفي هذا تأكيد على أن القوانين لا تكفي في بناء ثقة الناس بالقضاء، بل لا بد أن يضاف إلى صحة القانون سلامة القاضي من الهوى والغرض، ولا بد أن يشتهر بذلك بين الناس، حتى يطمئنوا إلى سلامة الحكم الصادر عنه.
___________________________
(1) أسس إصلاح النظام القضائي: د. رمضان حميدة محمد، ص 18.
(2) العلامة المراغي شيخ الأزهر: محمد كرد علي، ص 299.
(3) متفق عليه، أخرجه الإمام البخاري (4086)، وأخرجه مسلم (1733).
(4) الموافقات: الشاطبي (1/ 520).
(5) الاجتهاد في الإسلام، ص 39.
(6) النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين: د. محمد رجب البيومي (1/ 427).