أُنشئت في أوروبا وأمريكا أقسام للدراسات العربية والإسلامية واللغات السامية، وبرز فيها كبار أساتذة الاستشراق من المسيحيين واليهود الأشد كرهاً وتعصباً للإسلام؛ فموقف الاستشراق بصفة عامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على التشكيك في نبوته، وأن القرآن الكريم من تأليفه استمده من الثقافة السائدة في عصره.
ولسنا بصدد تأكيد هذه الفكرة، فهي من الثوابت لديهم، فيرى جولد تسهير أن القرآن ليس إلا مزيجًا منتخبًا من معارف وآراء دينية استقاهاً من خلال اتصاله باليهودية والمسيحية، وهو أيضاً أثر من آثار الأدب العالمي التي تأثر بها تأثرًا عميقًا، وبهذا انضم محمد صلى الله عليه وسلم إلى سلسلة أولئك الأنبياء بوصفه آخرهم عهدًا وخاتمهم(1).
ويؤكد ذلك مونتجومري وَات أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يعتبر الرسالة التي أوكلت إليه على أنها من الله تعالى، وأن القرآن عبارة عن مجموعة من السور التي أوحى الله بها إليه كما كان يعتقد، وأنه يمكن أن يكون قبل نزول الوحي قد سمع من بعض الأشخاص قسمًا من القصص التي يذكرها القرآن(2).
وهذه هي النظرة السائدة عن الإسلام ورسوله والقرآن، وساعد على روح التعصب عندهم ارتباطهم ارتباطًا وثيقًا بالمؤسسات التنصيرية، والروح الاستعمارية في دراساتهم للإسلام؛ تاريخًا وفقهاً وعقيدة وتفسيرًا وحديثًا وأدبًا وحضارة وفلسفة بهدف التشكيك في الإسلام؛ عقيدة وشريعة وتراثًا وحضارة، وأن البديل للمجتمعات العربية هو محاكاة النموذج الغربي في جميع المجالات حتى العادات والتقاليد والسلوكيات الاجتماعية.
ولم يتركوا من فنون الدراسات العربية والإسلامية إلا أسهموا فيه بنصيب واسع، وتطرقوا إلى موضوعات غاية في الدقة حتى غدت كتاباتهم وخاصة موسوعتهم «دائرة المعارف الإسلامية» المليئة بالشبهات والتحريف مرجعًا للمثقفين العرب الذين تأثروا بهم تأثرًا كبيرًا؛ فأصبحوا يرددون أقوالهم، ويعرضون شبهاتهم بمنهجهم النقدي الذي لا يعترف بنص مقدس.
انتشار الوضع في الحديث لأهواء شخصية
يذهب تسيهر إلى أن القسم الأكبر من الحديث ليس صحيحًا، فهو أثر من آثار جهود الإسلام في عهد النضوج، ولا نستطيع أن نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها، بل هناك أحاديث عليها طابع القدم من عمل رجال الإسلام القدامى؛ فالحق أن كل صاحب فكرة، وكل حزب، وكل مذهب يستطيع أن يدعم رأيه بوضع الأحاديث التي تدعمه، والمخالف له الحق في ذلك أيضًا(3).
ويذهب أكثر من ذلك بأن مؤلفي الحديث جمعوه من تراث الأمم الأخرى، فيقول: فهناك جُمل أخذت من العهد القديم والعهد الجديد وأقوال الربانيين أو مأخوذة من الأناجيل الموضوعة وتعاليم الفلسفة اليونانية، وأقوال من حكم الفرس والهنود، كل ذلك أخذ مكانه في الإسلام عن طريق الحديث(4).
ويذكر ماكدونالـد(5) دليلًا على الوضع في الأحاديث بأن هناك أحاديث متناقضة تنص صراحة علـى أن محمـدًا كـان لا يرضى عن الجدل في الدين، بينما نجد أحاديث أخرى تصوره مقبلاً على الجـدل إقبـالاً شديداً، وكلا النوعين مشكوك فيه على حد سواء، وربما كان النـوع الأول مـن هـذه الأحاديث قد وضعه الذين ظلوا فترة طويلة يرفضون تحكيم العقـل في هـذه الأمـور، ويقنعون بما يصل إليهم عن طريق النقل، ويمثل لذلك بحديث «إن رحمـتي تغلـب غضبي»(6)، الذي يتناقض، على حد زعمه، مع حديث «هؤلاء للجنة، ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي»(7).
الطعن في رواة الحديث الثقات
يتهم المستشرقون المحدثين بالتساهل في قبول الرواية، فقد يكون الراوي متهماً ومع ذلك يبقى شريفًا، لا يحط ذلك من شرفه وكرامته الشخصية واحترامه الديني، فهم لا يعبؤون بجهود المحدثين في نقد الرواة التي حملت كتبهم عنوان «الثقات»، و«طبقات الحفاظ»، «الضعفاء والمتركون»، «الجرح والتعديل»، «ميزان الاعتدال في نقد الرجال».. وغيرهم، وقد أوضح علماء السُّنة مكانة الصحابة في مصنفاتهم، وجاءت أقوالهم صريحة في ذلك، فقد عقد الخطيب البغدادي (ت 463هـ) بابًا في تعديل الله ورسوله للصحابة، وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم، وإنما يجب فيما دونهم؛ لأن عدالة الصحابة ثابتة(8).
وبالرغم من ذلك نجد المستشرقين يشككون في رواية الصحابة للسُّنة مثل أبي هريرة، والثقات من الرواة مثل ابن شهاب الزهري، فيري جوينبل أن هناك قسم من هذه الأحاديث وضع في صـورة أقـوال نسبت إلى محمد صلى الله عليه وسلم تتعلق بفضائل أماكن متعددة لم يفتحها المسـلمون إلا في عصـر متأخر، ومع مضي الزمن لم يجرؤ أحـد علـى الشـك في صـحة هـذه الأحاديث، ولم يصح في الإمكان اعتبار رجال كأبي هريرة من الكاذبين(9).
ويتهم تسيهر الإمام الزهري بأنه كان يضع الأحاديث إرضاء للأمويين؛ فزعم أن صلة الإمام الزهري بالأمويين جعلتهم يستغلونه في وضع الأحاديث الموافقة لأهوائهم، فلم يكن الأمويون وأتباعهم ليهمهم الكذب في الحديث الموافق لوجهات نظرهم، فالمسألة كانت في إيجاد هؤلاء الذين تنسب إليهم، وقد استغل الأمويون أمثال الزهري بدهائهم في سبيل وضع الأحاديث.
ويتجه إلى التدليس وتحريف النصوص ليثبت هوى في نفسه، فينقل عن ابن شهاب الزهري أنه قال: «إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة أحاديث»، ويفهم من هذا أنه كان مستعدًا لأن يخضع لرغبات الدولة في كتابة بعض الأحاديث، مستغلاً اسمه وشهرته في الأوساط العلمية(10).
والنص الصحيح الذي أثبته الذهبي قول الزهري: «إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث»(11) بإثبات أداة التعريف «ال» التي يتغير معها المعني تمامًا، فكلمة «أحاديث» تفيد انتحال أحاديث، والثانية «الأحاديث» تفيد تدوين الحديث.
الطعن في منهج المحدثين
يرى تسيهر نقده للمحدثين أن جهودهم في نقد الحديث كان من نتائجها الاعتراف بالكتب الستة أصولاً، التي جمع فيها علماء من رجال القرن الثالث الهجري أنواعًا من الأحاديث كانت مبعثرة رأوها أحاديث صحيحة، وقد أصبحت هذه الكتب مرجعًا مجزومًا بها لسُنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتبر في المقام الأول منها البخاري، ومسلم، وهكذا قام بجانب القرآن مراجع أخرى كانت لها أهمية كبري في المعرفة وفي الحياة الإسلامية(12).
وينتقدون عدم اهتمام المحدثين بنقد المتن على حد زعمهم؛ فيرى جوزيف شاخت أن المحدثين عولوا في نقدهم للأحاديث على الأسانيد فقط، متجاهلين تمام النظر إلى المتون والألفاظ؛ مما نتج عنه تصحيح كثير من المتون التي حقها الرد بسبب هذا المنهج الذي اعتمده المحدثون، وأنهم أخفوا نقدهم لمادة الحديث وراء نقدهم للإسناد نفسه(13).
ويؤكد ذلك غوستاف ويت بقوله: قد درس رجال الحديث السُّنة بإتقان، إلا أن تلك الدراسة كانت موجهة إلى السند ومعرفة الرجال والتقائهم وسماع بعضهم من بعض، ثم يقول: لقد نقل لنا الرواة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهة، ثم جمعه الحفاظ ودونوه، إلا أن هؤلاء لم ينقدوا المتن؛ ولذلك لسنا متأكدين من أن الحديث وصلنا كما هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يضيف عليه الرواة شيئاً عن حسن النية في أثناء روايتهم، ومن الطبيعي أن يكونوا قد زادوا شيئاً عليه في أثناء روايتهم، لأنه كان بالمشافهة(14).
إذا كان الاعتقاد السائد عند المستشرقين أن القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم وادعى أنه من عند الله، فلا غرابة أن يكون الحديث -في رأيهم- من وضع مؤلفين في عصور متأخرة على أنها أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحقيق أهداف معينة، لذلك نجدهم يشككون في أحاديث في أعلى درجات الصحة وردت في البخاري، ومسلم، منطلقين في هذا المنهج من خلالها عقيدتهم وخصومتهم للإسلام، ومنهجهم الغربي في النقد العقلي المجرد ويتناقلون تلك الأفكار من جيل لآخر، متجاهلين جهود المحدثين في تحقيق الحديث، والغريب أن نجد آراءهم ومنهجهم المرجع الرئيس للمثقفين العرب في العصر الحديث والمشككين في السُّنة النبوية.
______________________________________________
(1) جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، تاريخ التطور العقدي والتشريعي في الدين الإسلامي، ترجمة: د. محمد يوسف موسي وآخران، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1959م، ص15-16.
(2) مونتجومري وات: محمد في مكة، ترجمة: شعبان بركات، المكتبة العصرية، بيروت، دون تاريخ، ص7، 12، 205، 208.
(3) العقيدة والشريعة في الإسلام، ص50.
(4) المرجع السابق.
(5) دائرة المعارف الإسلامية، ج7، ص336.
(6) البخاري، كتاب التوحيد، ج6، ص2694 (6969).
(7) صحيح ابن حبان، كتاب البر والإحسان، باب ما جاء في الطاعات وثوابها، ج2، ص50 (338).
(8) الخطيب البغدادي: الـكفاية في معرفة أصول الرواية، ص36.
(9) دارة المعارف الإسلامية، ج7، ص333.
(10) مصطفى السباعي: السُّنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص206.
(11) الذهبي سير: أعلام النبلاء ج5، ص334.
(12) العقيدة والشريعة في الإسلام، ص51.
(13) جوزيف شاخت: أصول الفقه، ترجمة: إبراهيم خورشيد وآخرين، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1981، ص64.
(14) د. محمد بهاء الدين: المستشرقون والحديث النبوي، دار النفائس، عمان، 1999، ص161.