وسط موجات عاتية من التحولات العالمية المتسارعة، يبرز مفهوم العلمنة كأحد أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية المعاصرة، خاصة بعد عمليات استئصالية تعرضت لها تيارات إسلامية في عديد الدول داخل العالم الإسلامي وخارجة، ما سلط الضوء على ما يمكن وصفه بتحدي الهوية الأبرز في مجتمعاتنا المسلمة، التي تتعرض للغزو الفكري العلماني منذ نحو قرن من الزمان.
والعلمانية، كمفهوم وممارسة، نشأت في السياق الغربي كرد فعل على هيمنة الكنيسة في العصور الوسطى، يشير المفكر الإسلامي الراحل د. محمد عمارة، في كتابه «العلمانية ونهضتنا الحديثة»، إلى أن العلمانية في جوهرها هي فصل الدين عن الدولة، وهي وليدة الصراع بين الكنيسة والدولة في أوروبا، وهو المفهوم الذي يبدو غريباً على التجربة الإسلامية، لكن تم تصديره إلى العالم الإسلامي مع موجات الاستعمار والتحديث في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ويرى د. طه جابر العلواني، في كتابه «أزمة الفكر الإسلامي المعاصر»، أن انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي كان جزءاً من عملية استيراد النموذج الغربي للحداثة، دون مراعاة للخصوصيات الثقافية والدينية للمجتمعات الإسلامية، وهذا الانتقال لم يكن سلساً أو طبيعياً، بل كان مصحوباً بتوترات وصراعات فكرية وسياسية عميقة.
وفي السياق التاريخي، يمكننا ملاحظة أن العلمنة في العالم الإسلامي مرت بمراحل متعددة، ففي البداية كانت هناك محاولات للتوفيق بين الإسلام والعلمانية، كفكرة وافدة، كما نرى في أفكار رفاعة الطهطاوي في مصر في القرن التاسع عشر، ثم تطورت إلى دعوات صريحة لتبني النموذج العلماني الغربي، كما في كتابات علي عبدالرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم».
وبمرور الوقت أصبح تأثير العلمنة على المجتمعات الإسلامية عميقاً ومتعدد الأوجه، فقد أدى إلى تغيرات جذرية في بنية المجتمع والثقافة، وهو ما قدم له د. عبدالوهاب المسيري تحليلاً دقيقاً في موسوعته العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، مشيراً إلى أن العلمانية في سياقها الغربي أدت إلى تهميش الدين وإقصائه من الحياة العامة، وهو ما يتعارض مع الطبيعة الشمولية للإسلام.
وفي تقديري أن التحدي الأكبر الذي تفرضه العلمنة على الهوية الإسلامية يكمن في محاولتها فصل الدين عن مجالات الحياة المختلفة، وهو ما يتناقض مع النظرة الإسلامية الشاملة للحياة، فالإسلام، بطبيعته، لا يقبل التجزئة أو الفصل بين الروحي والمادي، أو بين الديني والدنيوي، وهذا التأثير يمتد ليشمل مجالات متعددة، على النحو التالي:
– المجال السياسي: حيث أدت العلمنة إلى ظهور أنظمة حكم تفصل الدين عن السياسة، وهو ما يتعارض مع المفهوم الإسلامي للحكم، ولذا أكد العلامة الراحل يوسف القرضاوي، في كتابه «من فقه الدولة في الإسلام» على أن الإسلام دين ودولة، عبادة وقيادة، وأن فصل الدين عن السياسة أمر غير مقبول في التصور الإسلامي.
– المجال الاجتماعي: أثرت العلمنة على العلاقات الاجتماعية والأسرية، فعلى سبيل المثال، أدت إلى تغيرات في قوانين الأحوال الشخصية في بعض البلدان الإسلامية، ما أثار جدلاً واسعاً حول مدى توافق هذه القوانين مع الشريعة الإسلامية.
– المجال الثقافي والفكري: إذ أدت العلمنة إلى ظهور تيارات فكرية تدعو إلى إعادة قراءة التراث الإسلامي بعيون علمانية، تحت شعار تجديد الخطاب الديني ومكافحة التطرف وغيرها من الشعارات التي باتت ستاراً لطمس الهوية الإسلامية.
في هذا السياق، يؤكد د. محمد عمارة في كتابه «مخاطر العلمانية على المجتمع والدولة» أن العلمانية في العالم الإسلامي كانت وما زالت وسيلة لتغريب المجتمعات الإسلامية وفصلها عن هويتها وقيمها الأصيلة، إذ إن العلمنة تؤدي في المحصلة إلى تفكيك البنية الاجتماعية والأخلاقية التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي.
ويشير د. عماد الدين خليل، في كتابه «التفسير الإسلامي للتاريخ»، إلى أن العلمنة في العالم الإسلامي كانت جزءاً من مشروع استعماري أوسع يهدف إلى إعادة تشكيل الهوية الثقافية للشعوب الإسلامية، ويعكس هذا الرأي وجهة نظر شائعة بين العديد من المفكرين الذين يرون في العلمنة تهديداً للهوية وأداة للهيمنة الغربية.
وفي تقديري، فإن الحفاظ على الهوية الإسلامية في مواجهة تيارات العلمنة يتطلب مزجاً بين تعزيز التعليم الإسلامي مع الانفتاح على العلوم الحديثة، وهو ما يتطلب إصلاح المناهج التعليمية في العالم الإسلامي لتجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتطوير خطاب إسلامي معاصر، قادر على التفاعل مع قضايا العصر.
ويتطلب ذلك جهوداً فكرية كبيرة من العلماء والمفكرين المسلمين لتقديم رؤية إسلامية متكاملة للقضايا المعاصرة، وهو ما شدد عليه د. عمارة، في كتابه «معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام»، لافتاً إلى أهمية تطوير مصطلحات إسلامية قادرة على التعبير عن الرؤية الإسلامية للعالم.
كما تتطلب المعركة مع العلمانية تقوية المؤسسات الاجتماعية والثقافية الإسلامية لتكون حصناً ضد التغريب، بما يشمل دعم المساجد والمراكز الإسلامية ومؤسسات المجتمع المدني التي تعمل على الحفاظ على الهوية، وهو ما فصله د. عبدالحميد أبو سليمان في كتابه «أزمة العقل المسلم»، إضافة إلى الانفتاح الواعي على الثقافات الأخرى، بحسب تعبير المستشار الراحل، طارق البشري، في كتابه «الحوار الإسلامي العلماني».
يدعو البشري، في كتابه، إلى حوار حضاري بناء بين الإسلام والغرب، يحافظ على الخصوصية الثقافية مع الانفتاح على الآخر وتطوير نموذج إسلامي للتنمية يجمع بين الأصالة والمعاصرة.
ويتطلب ذلك جهوداً في مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع لتقديم بدائل إسلامية للنماذج الغربية، حسبما يرى عمارة في كتابه الإسلام والتنمية الاجتماعية، مشدداً على أن العلمنة تشكل تحدياً حقيقياً للهوية الإسلامية في العصر الحديث، ومع ذلك فإن هذا التحدي يمكن أن يكون فرصة لإعادة اكتشاف القيم الإسلامية وتجديد الخطاب الديني بما يتناسب مع متطلبات العصر.
ويقدم د. العلواني توصيفاً دقيقاً لجوهر التحدي العلماني بالتأكيد على أن التحدي الحقيقي ليس في مواجهة العلمانية، بل في تقديم نموذج إسلامي قادر على التفاعل مع معطيات العصر دون التخلي عن الثوابت.
فالحاجة الحضارية لأمتنا تتمثل في حوار حضاري بناء بين الإسلام والحداثة، يحافظ على الهوية الإسلامية مع الانفتاح على المنجزات الإيجابية للحضارة المعاصرة، وهذا الحوار ينبغي أن يكون مبنياً على أسس من الفهم المتبادل والاحترام للخصوصيات الثقافية، فتحدي العلمنة للهوية الإسلامية ليس حتمياً أو نهائياً، بل هو فرصة لإعادة تجديد الفكر الإسلامي وتطويره بعدما تجاوزت تجربة الأمة كثيراً من فقه الماضي ومذاهبه.