لقد كره الله تعالى انبعاثهم فثبطهم؛ لأنهم لم يأخذوا بأسباب الخروج للجهاد، وشرف المشاركة في صفوفه، فقص علينا حكايتهم بقوله: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: 46).
فمن أراد الفعل تهيأ له، واستعد لخوضه، وأخذ بأسبابه، ولم يتوان في شيء من لوازمه، ولكن حين لا يريده، فإنه يتوانى ويتكاسل ويبحث عن الأعذار والأسباب، التي يتمترس خلفها، مخفياً عدم رغبته بالأمر، أو كراهيته له، ورفضه القيام به.
ومن جميل ما جاء في الآية الكريمة أن «عدة» جاءت نكرة، حتى تصلح على أي شيء، يستطيعه صاحبه، فلم يلزم بعدة بعينها، يجب عليه أن يعمل على تحقيقها، فالمطلوب هنا أي عدة تأتي ضمن الإمكانات، وفي حدود الاستطاعة، فلم يكلف القوم بعدة فوق إمكانياتهم، وخارج حدود استطاعتهم.
فلما كانت هذه حالهم في التراخي عن الأخذ بالأسباب، والتكاسل في الإعداد والاستعداد؛ كره الله سبحانه وتعالى انبعاثهم، كره مشاركتهم فريضة الجهاد، أحد أركان الإسلام وذروة سنامه، كره وجودهم وسط الجموع المؤمنة، من المجاهدين الصادقين، الذين أعدوا واستعدوا، وأخذوا بالأسباب، واستنفذوا جهدهم في البذل والاستعداد، فكانت النتيجة تثبيطهم، وذهاب قدرتهم، وارتخاء جوارهم، وموت هممهم وغيرتهم، فوجب أن يكونوا مع القاعدين من العجزة والنساء والأطفال.
فإن خروجهم، وانبعاثهم، ومشاركتهم للمجاهدين جهادهم، فيه خطورة شديدة، على سلامة الصف المجاهد، في تماسكه، ووحدته، وقوته، فقال تعالى مبيناً خطورتهم، ومحذراً من وجودهم، أو الأسى على غيابهم، وحتى لا يتألم الصادقون من انصرافهم وعدم مشاركتهم: (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّٰعُونَ لَهُمْ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ) (التوبة: 47).
ويا لها من خطورة بالغة، وأفعال قبيحة، تحملها نفوس عفنة مريضة، تعيش على الفتن، وتتكاثر على نشر الوهن، واليأس والاستسلام، والمشكلة الأخطر أن ثمة سماعين لهم في الصفوف المؤمنة، الأمر الذي يفاقم خطرهم، ويزيد من تأثيرهم السلبي على الصف المؤمن.
المقلق في الموضوع، ونحن نقرأ هذه الآيات الكريمة، في ظل هذا الواقع الرديء، الذي تعيشه الأمة، رغم أعدادها الكبيرة، وإمكاناتها العظيمة، وجيوشها الجرارة، فإنها تعيش واقع العجز والخذلان، واقع النكوص والتقاعس، واقع القاعدين العاجزين، واقع الغثائية والتهميش، الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً، ولا يقوون على فعل، يوقف حرب الإبادة البشعة التي تتعرض لها غزة، بإنسانها وحجرها وشجرها، منذ ما يزيد على عشرة شهور كاملة، سفكت فيها الدماء، واستبيحت فيها المحرمات، وهدمت فيها البيوت على رؤوس ساكنيها، ودمرت المساجد والكنائس على رؤوس روادها، واستهدفت المستشفيات والمدارس والجامعات.. إلخ.
عشرة شهور لم نقو، رسميين ولا شعبيين، فيها على فعل حقيقي، من شأنه وقف العدوان، أو تخفيف معاناة الأطفال والنساء، بسد جوعهم، وعطشهم، يا للهول، هل كره الله انبعاثنا، فثبطنا، وجعلنا مع القاعدين؟!
نعم، هل كره الله انبعاثنا، فنهضنا نهوض المتثاقلين، لم نرعب عدواً، ولم نردع معتدياً، ولم نوقف إجراماً؟!
هل حقاً كره الله انبعاثنا، فبقينا في صفوف القاعدين، نلطم خدودنا، ونشق ثيابنا، ونبكي في عجزنا وخذلاننا؟!
هل كره الله انبعاثنا، فبقينا في صفوف المتفرجين القاعدين، حتى مهرجانات الرقص والغناء في بلادنا لم نستطع إبطالها وإلغاءها؛ تضامناً مع شلالات الدماء المراقة هناك؟!
هل حقاً كره الله انبعاثنا، فبقينا مع القاعدين، نشهد جرائم الإبادة والقتل والدمار والحصار، لأطفالنا ونسائنا وشيوخنا وشبابنا، نسمع صرخاتهم، ولا تحركنا استغاثاتهم؟!
هل حقاً كره الله انبعاثنا فثبطن فأبقانا مع القاعدين؟!