أول ما فرض اللهُ عز وجل على عباده الإيمان به والكفر بكل معبود سواه، حتى إنه أرسل جميع رسله بهذا الأصل، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) (النحل: 36)، وجاءت كل التشريعات الإلهية، سواء على مستوى العقائد أو الأحكام، تابعة لهذا الإيمان، ومن ذلك مفهوما الوِلاية والنصرة.
مفهوم الوِلاية
لم يكن الإيمان بالله عز وجل منفصلًا عن مفهوم آخر يُعقد عليه القلب ويستسلم به العمل؛ ألا وهو مفهوم الوِلاية، فقال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة).
وفي الآية تقرير لمفهوم الوِلاية على مراتب ثلاث، وهي: حب الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين، وذلك تراتب عقليٌ كما هو نقلي، فإن من أحب اللهَ عز وجل، وهو أصل الإيمان، لن ينفك عن محبة رسوله صلى الله عليهم جميعًا وسلم الذي اصطفاه لتبليغ دينه، ولن يساوي بعدها بين من خضع لأمر الله فآمن به وبرسوله وغيره ممن لم يؤمن، ولذلك فالمراتب الثلاث غير منفكة ولا يُتصور لها انفكاك.
وكذلك فقد نصت الآية على جزاء أصحاب هذه الوِلاية بتسمية أصحابها «حزب الله»، فهم الذين تولاهم لولايتهم إياه عز وجل، وهم بذلك ليسوا ناسًا من الناس؛ بل هم أهل الله وخاصته من عباده، الذين افترقوا عن المفرِّطين في وِلايته ورسوله والمؤمنين به فلم يستجيبوا للنهي في الآية التالية مباشرة، وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (المائدة: 57).
العلاقة بين الوِلاية والنصرة
وقد أخطأ من ظن أن الوِلاية أمر قلبي محض لا يتعدى إلى النصرة العملية، وجوابه أن ذوي العقول السليمة والعقائد الصحيحة يجزمون بأن الإيمان اعتقاد وعمل، فكل ما هو من مضامين الإيمان فإنه يشترك في كلا المستويين العقدي والعملي، وكمثل ما يقال في مفهومي الإيمان والإسلام واشتراكهما حد التعبير بأحدهما عن الآخر في نصوص الوحي الشريف وعدم تصور وجود رجل مؤمن بالله عقيدةً أن يكفر به عمليًا؛ فإن مفهوم الولاية يعني الحب القلبي والنصرة العملية، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله عز وجل»(1)، فقد عُبر في هذا الحديث عن النصرة بالموالاة بدليل إفراد الحب عنها، وكذلك في المعاداة والبغض.
مفهوم النصرة
قد تأتي النصرة في كتاب الله عز وجل على معنى القدر الكوني كما في قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51)؛ وتكون على معنى أن المؤمن مآله الانتصار إن آجلًا أو عاجلًا، وقد تأتي على معنى الإرادة الشرعية التي يريدها الله من عباده، ولُبها فكرة الابتلاء، كما قال تعالى: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) (محمد: 4)، وذلك (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) (الحديد: 25).
وعليه فالنصرة الشرعية هي الموالاة العملية للمؤمنين، وهي على مستويات؛ إيجابًا وسلبًا، ودرجات في كل منهما.
أما الإيجاب: فإن النصرة واجبة للمؤمنين إطلاقًا، سواء كان المؤمن مطيعًا أو عاصيًا، فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره»(2)، وهذا مما يُفهِم أن النصرة التي هي من الولاية متعلقة بحب مراضي الله عز وجل، فالله الذي أمر بحب المؤمنين رضي لهم الطاعة وكره منهم المعصية، ورضي من إخوانهم أن يعينوهم على فعل الطاعة واجتناب المعصية، وكل ذلك نصرة وولاية وإيمان.
وأما السلب: فإن نصرة أعداء الله محرمة، وتتأكد إن كان في نصرتهم ضرر على المسلمين، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (الممتحنة: 1)، بل وأخبر الله سبحانه أنه سلوك أهل النفاق؛ فقال تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {138} الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء).
وأما درجاتها فإن الشريعة جاءت متماشية مع فطرة البشر، فالحب والبغض وما يتبعهما من سلوك عملي بالنصرة أو العداوة كما يوجد ويعدم فإنه يزيد وينقص، فنصرة الأنبياء ينبغي أن تكون أكثر من نصرة من دونهم من المؤمنين، وحتى المؤمنين فولايتهم متفاوتة حسب درجات إيمانهم، ويوضح ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 72)، وكذلك فعداوة الأشد عداوة للمؤمنين ينبغي أن تكون أكثر من عداوة من دونهم.
نتائج غياب مفهوم النصرة واقعًا
وقد استوعب المسلمون هذا المفهوم في صدر تاريخهم حتى تمثل فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(3)، وقد خلف من بعدهم خلوف ضاع فيهم هذا المفهوم، حتى إنه ليصح أن نقول: إنه لم يوجد في تاريخ الإسلام فترة استُضعف فيها بعض المسلمين إلا وكان غياب مفهوم النصرة حاضرًا، فقدرُ اللهِ أن ينصر من ينصره ورسله؛ ومن لم ينصر المؤمنين لم يكن ناصرًا لله ولا رسوله، وهذه حالنا باختصار.
وإن هذه الأمة لن ترجع إلى ما كانت عليه من خير حتى ترى أن عقد الإيمان سامٍ على أي اختلافات أخرى، فتتوالى فيما بينها، وتكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم»(4).
______________________
(1) رواه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2539).
(2) رواه البخاري (6952).
(3) رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586) واللفظ له.
(4) أخرجه أبو داود (4530)، والنسائي (4734)، وأحمد (993) بنحوه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4530).