لقد كان ميلاد الدعوة الإسلامية في مكة ثم الدولة الإسلامية الأولى في المدينة ميلادين صعبين عسيرين؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه كان محاطاً بأعداء دعوته ودولته من كل حدب وصوب، فثمة وثنيات عربية في الجزيرة تحيط به من كل ناحية، ومن ورائها نفوذ واسع للملوك ذوي التيجان من العرب المناذرة حلفاء الفرس في العراق، والغساسنة حلفاء الروم في الشام، ثم هناك الإمبراطوريتان الرومانية ومركزها القسطنطينية، والفارسية ومركزها بلاد فارس.
وقد تراوحت علاقة الأمة الوليدة بهذه المكونات بين شد وجذب وقتال وسلم وقطيعة وصلح، وكانت الحروب بين المسلمين وبينهم سجالاً والأيام دولاً.
وقد اقتضى ذلك في كثير من منعطفات السيرة مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع أولئك الخصوم أرسى فيها النبي صلى الله عليه وسلم معالم راسخة ودروساً بالغة للأمة من بعده حين تحتاج إلى مفاوضة أعدائها.
ولعل أول مراحل ذلك التفاوض النبوي كان تلك الوفادات المتكررة التي أوفدتها قريش إلى أبي طالب ليضغط على محمد فيكف عن ذكر الأوثان ودين الآباء بسوء، أو ليتخلى أبو طالب عن محمد فتنال منه قريش، فحال دون ذلك فطنة أبي طالب حيناً، وثبات النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً وحسن رده أحياناً.
وحين يئست قريش من مطاوعة أبي طالب لها قررت الدخول في مفاوضات مباشرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوفدت إليه أعلمها لساناً وأحكمها رأياً عتبة بن ربيعة.
فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي في المسجد، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني، أعرض عليك أموراً، تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها، فقال عليه الصلاة والسلام: «قل يا أبا الوليد، أسمع»، قال: يا ابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هـذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رئياً من الجن لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى.
فلما فرغ عتبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفرغت يا أبا الوليد؟»، قال: نعم، قال: «فاسمع مني»، قال: أفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم».
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض، يحلف بالله: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هـو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة.. يا معشر قريش، أطيعوني، فاجعلوها بي، خلوا بين الرجل وبين ما هـو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لكلامه الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزه عزكم، فقالوا: لقد سحرك محمد، قال: هـذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.
لقد استخدم عتبة حيلته ودهاءه فتودد للنبي صلى الله عليه وسلم واستجاش عواطفه وأعلى ما بينهما من القرابة وعدد العروض والإغراءات، غير أن هذه المساومات على المبادئ الكبرى هي الأخف مؤنة إذ يكفي فيها الوعي بأبعادها والثبات الراسخ والرد الحاسم واللغة الراقية الواضحة ما جعل زعيم قريش ينقلب بغير الوجه الذي جاء به!
ولعل مفاوضات النبي صلى الله عليه وسلم للوسطاء يوم «الحديبية» تمثل معلماً تأسيسياً في فن التفاوض النبوي؛ إذ تعكس تلك المفاوضات وضوح الغاية وتحديد الهدف وعدم الانجرار لقضايا هامشية قد يضيع الإغراق فيها أصل القضية فها هو صلى الله عليه وسلم، يقول لبديل بن ورقاء: «إنا لم نأت لقتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه، إن قريشاً قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم فإن شاؤوا ماددتهم مدة يأمنون فيها، ويخلون فيما بيننا وبين الناس -والناس أكثر منهم- فإن أصابوني فذلك الذي أرادوا، وإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس أو يقاتلوا وقد جموا، وإن هم أبوا فو الله لأجهدن على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله تعالى أمره».
وهذا نص جمع بين فنون التفاوض محتشدة فركز على الهدف، وبين أنه على الحق؛ فالبيت لا يمنع عنه في عرف العرب حاج ولا معتمر، ومهد الطريق للسلام بعرض الهدنة التي قبلها القوم آخر الأمر، ونصح للخصم بترك القتال ريثما يداوون ما نالهم من جراح، وقدم له مخرجاً ملائماً، وحدد دائرة الثوابت التي لا تقبل مساساً ولو انفردت لها السالفة.. وتلك دروس بليغة احتشدت في عبارة واحدة لا سيما وبديل بن ورقاء هو أول الوسطاء.
وهذا الطرح النبوي على بديل رسم مسار الجولات اللاحقة من المفاوضة.
وعندما جاء الوسيط الثاني وهو مكرز بن حفص قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا رجل غادر أو فاجر»، فأعاد عليه ما قاله من قبل لبديل بن ورقاء، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم بذكاء شديد قرر عدم تطوير المفاوضات على يد هذا الوسيط غير المؤتمن.
ولما جاء الوسيط الثالث وهو الحليس بن علقمة سيد الأحابيش أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيد الضغط على قريش في إطار الطرح الأول الذي حمله إليهم بديل بن ورقاء؛ فأمر أصحابه أن يسوقوا الهدي مشعرة مقلدة أمام عينه، وكان الرجل معظماً للهدي، فلما رأى المشهد أغناه عن المقال فرجع إلى قريش قائلاً: ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدوا عن البيت!
ومن بعده جاء عروة بن مسعود الثقفي لهوله التفاف الجنود حول قائدهم ومحبتهم له وليرجع إلى قريش ناصحاً بأن يتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يطوفون بالبيت حتى لا تصيب قريشاً قارعة من السماء، يقولها عروة ثم يلوي عنان فرسه قافلاً إلى الطائف تاركاً قريشاً تواجه مصيرها.
لقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من كل تلك الوفادات وأنهاها لصالحه باستقطاب الوسطاء واستباق الخطاب القرشي في كل المراحل وزيادة الضغط على قريش.
ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان أحب قريش إلى قريش ليفاوضها، وتحتجزه قريش حتى تستقر على رأي ثم ترسل أحد سادتها وهو سهيل بن عمرو لإبرام اتفاق الهدنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا أيقن النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً أرادت الحل، فها هي للمرة الأولى توفد أحد سادتها؛ إذ كان كل الوسطاء السابقين من خارج قريش.
ولينتهي الاتفاق إلى تلك الخطوط العريضة التي اقترحها النبي صلى الله عليه وسلم على بديل بن ورقاء أول الأمر.
لتمثل الحديبية بمهاراتها التفاوضية الرفيعة ونتائجها الكبيرة فتحاً مبيناً بالتعبير القرآني؛ حيث اعترفت قريش للمرة الأولى بشرعية الدولة النبوية وبحق المسلمين في زيارة البيت وفي عقد الأحلاف، وهادنت النبي صلى الله عليه وسلم هدنة تسمح بالتفرغ للدعوة ونشر الإسلام.
وهكذا توالت المفاوضات النبوية كاشفة عن صنوف من المهارات والفنون التي أغنت عن كثير من الحروب واختصرت كثيراً من المسافات والأزمان، وحققت للأمة الوليدة حقوقاً ومكاسب بالغة في أوقات حرجة، وعلى الأمة أن تنظر لتلك الفنون باستبصار وتلتمس فيها الأسوة الحسنة والمثل الأعلى.