الهجمة الشرسة التي تتعرض لها المقاومة الإسلامية في غزة، بعد قرارها الذي اتخذته يوم السابع من أكتوبر، في شن هجومها على مستوطنات محيط غزة، الذي أخذ قوات الاحتلال على حين غرة، فبغته وألحق به هزيمة شنيعة، بحيث استطاع خلال فترة زمنية وجيزة من أسر مجموعة كبيرة من مدنيين وعسكريين.
الأمر الذي شكل صدمة وفجيعة لكيان الاحتلال، وداعميه في الشرق والغرب، وعلى رأسهم أمريكا، مما جعلهم في صف واحد، فتداعت وفودهم وعلى أعلى المستويات، تحط رحالها في عاصمة الكيان الزائل بإذن الله، قريباً، مقدمين كل ما يستطيعونه من عتاد وسلاح متطور، ورجال مدججين لدعم الاحتلال في عدوانه على غزة.
ولم يقف أمر الهجوم على غزة ومقاومتها عند حدود أعداء الأمة وخصومها، ولم يكن مفاجئاً لنا أن تخرج علينا ومن بيننا وبألسنتنا من يشن هجوماً لاذعاً على المقاومة، ومن المؤسف له أن يتربع على رأس هؤلاء شيوخ وطلاب علم، وظفوا محفوظاتهم من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم في هجومهم هذا، معتمدين منهج الانتقاء والاختيار مرة، ولي أعناق النصوص مرات أخرى، متجاهلين الكثير من الحقائق في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكثير من الوقائع التي شهدها تاريخ أمتنا، يوم كانت راية الجهاد عالية فيها، يوم كان فيها رجال أشداء على الكفار، رحماء على المؤمنين.
في الحقيقة، هذا الحماس من هؤلاء، في حشد أدلتهم ونصوصهم المنتقاة، جعلني في حيرة من أمري، ودفعني للوقوف على كثير من القرارات التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرارات يصدق فيها ما قاله هؤلاء اليوم في هجومهم على المقاومة الإسلامية في غزة، فإذا أردنا أن نزن هذه القرارات النبوية الشريفة، التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ميزان وفقه هؤلاء، الذين هاجموا المقاومة، فإن أقل ما يقال في هذه القرارات النبوية الشريفة، أنها قرارات غير مدروسة، ومتعجلة، وحماسية، وعاطفية، لم تحسب حساب النتائج، وما يمكن أن تجره هذه القرارات على الدعوة وأصحابها.
كما أنها لم تستوف شروط المواجهة، في الإعداد والاستعداد، وفي هذه العجالة سوف نستعرض بعض هذه القرارات، ونقيمها في ميزان الذين هاجموا المقاومة الإسلامية في غزة.
القرار الأول: الكشف عن هوية الذين التحقوا بركب الدعوة، وآمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم قلة قليلة، أغلبهم من العامة، ضعفاء القوم، الذين لا ظهر لهم في المجتمع، فكان القرار النبوي أن يخرجوا من دار الأرقم بن أبي الأرقم، معلنين إسلامهم، كاشفين هويتهم الجديدة، في تحد سافر للكفر في عقر داره، وذلك بناء على اقتراح تقدم به عمر بن الخطاب، الذي التحق بركب الدعوة حديثاً، الأمر الذي جلب على هؤلاء المساكين البلاء والعذاب، ومن ثم الحصار والتجويع.
ولقد كان ثمن هذا القرار باهظاً، حيث أدى لقيام مشركي قريش بمطاردتهم، وملاحقتهم، وتعذيبهم، وتصفية كثير منهم، وبعد ذلك قاموا بمحاصرتهم اقتصادياً واجتماعياً، في شعب أبي طالب، ثلاث سنوات عجاف، أجاعوهم وعطشوهم، حتى أكلوا أوراق الشجر، ولم يقف الأمر عند هذا، بل أدى إلى نزوحهم وهجرتهم عن أوطانهم.
لقد كان المشهد التالي لهذا القرار النبوي مزدحماً بالصور المؤلمة، صور التعذيب الشديد، الذي تعرض له صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فها هي الزوجة تعذَّب أمام زوجها، والزوج أمام زوجته، والابن أمام والديه، يشهد قتلهما بدم بارد، والوالدان أمام ابنهما، يا لها من صورة فظيعة ومؤلمة!
ألم يكن المسلمون في غنى عن كل هذا، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجَّل هذا القرار، حتى يشتد أمر الدعوة، فتقوى على حماية نفسها وأبنائها؟!
القرار الثاني: في أواسط العام الثامن للهجرة بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإرسال الرسل إلى الملوك والحكام يدعوهم للإسلام، وكان من الرسل الصحابي الجليل الحارث بن عمرو الأزدي رضي الله عنه الذي وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى بالشام، غير أنه تم الاعتداء عليه وقتله من قبل شقيق الملك، وقبل أن يصل للملك، وحين بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، غضب وقرر الانتقام له، ومعاقبتهم على فعلتهم هذه، فجهز جيشاً قوامه 3 آلاف مقاتل، ووضع على رأسه الصحابي الجليل زيد بن حارثة، وحدد من يخلفه من الصحابة في قيادة الجيش إن قتل الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب، وإن قتل الأخير فيخلفه الصحابي الجليل عبدالله بن رواحه، ثم وجه الصحابة ليتفقوا على واحد من بينهم إن قتل الثالث.
وباعتقادي أن وقوف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عند هذه التفاصيل، وكأنه وقوف يحمل إشارة إلى استشهاد هؤلاء القادة من الصحابة الكرام في هذه الواقعة العظيمة.
وهنا نقف على مناقشة هذا القرار النبوي الكريم بمنطق هؤلاء القوم، على أي شيء اعتمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البعث؟ وما القوة التي حملته على أن يسير هذا الجيش؟ علماً أنه يرسله إلى خارج الجزيرة العربية، وهي أول غزوة للمسلمين خارجها.
الملاحظات على هذا القرار كثيرة، تؤكد أنه قرار غير محسوب النتائج، ولم يحظ بالدراسة اللازمة، ويتسم بالعاطفة والاستعجال، أن ترسل جيشاً محدود العدد، إلى القتال على أرض يجهل تضاريسها وبيئتها وشعابها، وإلى عدو مقيم في أرضه، يعرف تفاصيلها وتضاريسها وشعابها، عدو متحالف مع أقوى قوة في ذلك الوقت، وهي الإمبراطورية الرومانية، فهذا الجيش المتواضع في عدده، سيواجه قوتين كبيرتين مجتمعتين معاً، الغساسنة والروم، يا للهول، جيش قوامه 3 آلاف رجل، في مقابلة جيش قوامه مائتا ألف مقاتل، إنه الانتحار بعينه، إن هذا القرار يعني الحكم على هذا الجيش بالموت، ولماذا؟ أمن أجل صحابي واحد قتل، يضحى بـ3 آلاف؟ ما هذا القرار المتعجل؟!
وماذا عن النتيجة، استشهاد القادة الثلاثة الكبار الذين عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى 9 من الصحابة الكرام، فهل يعقل من أجل الانتقام لرجل واحد أن يضحى بـ9 من كبار الصحابة؟! ما هذا الاستهتار بالأرواح والمقدرات؟ ألا يوجد حرمة للدم المسلم؟ أليس هدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من إراقة دم مسلم واحد؟!
قد تستنكر مثلي هذه الاتهامات أن تقال بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن بدنك يقشعر من هول ما يمكن أن تقوله اتهاماً لسيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اتخاذ قراراته، مقللاً من شأنه، متهماً أمانته على أرواح أصحابه، مستهيناً بحفظ أمنهم وأمانهم، واستقرارهم، لكن وللأسف وجد من وجه مثل هذه الاتهامات للمسلمين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، من الذين التحقوا بركب الإسلام نفاقاً وخداعاً.
طبعاً القرارات النبوية التي يمكن أن يقال فيها ما أشير إليه في المثالين السابقين، كثيرة جداً، ولعل كل القرارات النبوية يصدق فيها هذا القول، بناء على ما ذهب ويذهب إليه هؤلاء القوم، في «بدر الكبرى»، وفي «أحد»، وفي «حمراء الأسد».. وغيرها.
ولعل ما سبق «صلح الحديبية»، حين منع مشركو قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من أداء العمرة، فما كان من الرسول الكريم إلا أنه دعا صحابته للبيعة، للبيعة على أي شيء، إنه يدعوهم للبيعة على الموت، تصور البيعة على الموت، على الموت، ما هذه البيعة؟! البيعة على الموت.. أهذه هي دعوة الإسلام؟ تبايع الناس على الموت؟!
نعم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة على الموت، وليس على القتال، حتى لا يقول أحد منهم: يا رسول الله، لسنا مستعدين للقتال، وليس معنا عدة كافية للقتال.
الحديث يطول، ولكن ما يجب الإشارة إليه، أن كل قرارات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن تخلو من الأهداف والغايات والرسائل التي يريد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم توصيلها للمسلمين أولاً، وللأعداء ثانياً، فحاشاه صلى الله عليه وسلم من هذه الاتهامات وهذا البهتان.
وعلى أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ألا ييأسوا من قول هؤلاء المثبطين اليائسين المستسلمين، المخذلين، الذين يبغون الفتنة ونشرها، لإفساد ديننا علينا، وتفريق صفنا، وتشتيت أمرنا.