الزمان:
لا تحدد الرواية زمنا تاريخيًا دقيقًا، إنها تقدم أحداثا، تشير إلى وقوعها في عقود زمنية ليست بعيدة عن زمننا، ولا يبدو للزمن حضور فاعل أو مؤثر على الأحداث والشخصيات بقدر ما تبدو الشخصيات فاعلة فيه ومؤثرة.
وإذا كان الزمان التاريخي شبه غائب، فإن الزمن الروائي مرتبط بالحدث الرئيس وهو مقتل الفتي محفوظ جرجس ابن إسطاسية الأرملة التي تنوح عليه مع كل فجر يهب على منية المرشد وضواحيها من القرى والعزب، ويأخذ الزمن الروائي وفق العرض الفني اتجاهات تكشف عن ماضي العائلة الحاكمة في القرية وتاريخ أفرادها وحركتهم الاجتماعية والإنسانية، وأيضا يوضح أحلامهم وآمالهم ومؤامراتهم وما يجري لهم من أحداث ووقائع تحسم مصائرهم ونهاياتهم.
الزمان الروائي مجرد تسجيل للوقائع في تتابعها، وتنوعها، دون أن يكون له حضور فاعل في تغيير الشخصيات أو الأحداث..
لا ريب أن الزمان في الرواية يتوارى خلف البناء الروائي ولا يتقدمه ولذا فإن تأثيره يبدو محدودا على الشخصيات والأحداث إلا بالنهايات الفاجعة أو موت الفجاءة الذي يصيب عديدا من رموز الرواية وأفرادها كما سنرى.
البناء الروائي:
يبدأ البناء الروائي بتقديم امرأة تنوح من أجل ابنها القتيل مع كل فجر، وتدعو على القاتل المجهول، ويتألم الناس من أجلها ويتشاءمون بسبب نواحها الحزين المستمر. وتحوم شبهة القتل حول عبد العظيم عتمان الجزار الذي تصفه الرواية بالمعادي للنصارى، والرجل بارع في التجارة بلحم البهائم النافقة أو الفطيس، واستغلال أصحابها الذين يعيشون فجيعة فقدها أكثر مما يعيشون فقد الأقارب، ويتطلع إلى الغنى وشراء ماكينة ري خاصة به يؤجرها للآخرين ويتربح منها، مثلما تفعل عائلة البراوي.
ونتعرف في المراحل الأولى من الرواية على طالب الحقوق حمزة حامد البراوي الذي تشغله معرفة قاتل محفوظ جرجس والرغبة في الوصول إليه، انتصارا للعدالة، بينما يحوك عمه عابد المؤامرات مع المشتبه بهم، ويزعم في الوقت نفسه أنه يتحرى عن القاتل حتى يقبض عليه.
العدالة الإلهية
ولأن السرد يأتي على ألسنة الشخصيات، كل يحكي الأحداث من وجهة نظره، فالزمن يتحرك من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى المستقبل بما يخدم فكرة الرواية وهي البحث عن قاتل محفوظ جرجس ابن السيدة إسطاسية التي تروع أهل القرية فجر كل يوم بدعائها على من حرمها من ابنها. وعبر حركة الشخصيات نتعرف على أفكار الريف المصري في العقود الماضية ونشاهد ملامح الحياة ولغة التعايش أو التخاطب بين أفراده، ونرى بصفة عامة الثقة المطلقة في العدالة الإلهية وهو ما تمثل في يقين إسطاسية، أو يقين الفطرة الإنسانية الصافية صفاء القاع تحت القاع بأن توازن الكون مبني على العدالة الحكيمة الحاكمة، وعدالة السماء لا بد أن تتحقق إن عاجلا أو آجلا، لا بد سيلقى المجرم عقابه، ولا بد أن ينفضح ويصير عبرة لمن يعتبر ، وهذا ما تجلى بعد براءة المتهمين في مقتل محفوظ نتيجة تلاعب المحامين والشهود (الرواية، ص 51)، وتبرئة عمدة الحجر لعبد العظيم عتمان الموصوف بأنه عدو النصارى. ولكن ” المتهم في بلدتنا يبقى متهما إلى الأبد حتى وإن برأته المحكمة!”، (الرواية، ص84).
المبالغة
ويقع البناء الروائي تحت سطوة المبالغة أو الخروج عن السياق الطبيعي للأحداث في بعض المواضع حين يفاجئنا ببعض المواقف التي تبدو نشازا أو غير مألوفة في أرض الواقع، ومن ذلك مثلا تلك الخطبة التي عنون لها بخطبة منبرية حمقاء قام بإلقائها عابد البراوي وتستغرق جزءا طويلا من الفصل الأول، هو الجزء (ج)، مع أنه ليس مؤهلا لإلقاء الخطبة، ولم يعرف عنه أنه يصلح أن يكون إماما، وسمعته بين الأهالي لا تجعل أحدا يقبل أن يكون عالم دين يتعلمون منه الحكمة وفصل الخطاب، ولا يشفع له أن يعترف بنقائصه وقصوره في ثنايا الخطبة، ولكن الرواية أرادت أن تقدم إلينا موقفه أو موقف العائلة البراوية من نواح أم القتيل محفوظ جرجس، وأن من حقها أن تحزن على ابنها وليس من حقها أن تشعل القرية بالحزن أو تحدث كارثة نفسية تقضي على الناس جميعا، إنه يطلب من المصلين أن يمتنعوا عن تشجيع إسطاسية من تحت لتحت، وألا يشاركوها البكاء، وأن يهملوها حتى تيأس! (الرواية، ص 52- 56)، ومن المفارقة أن تأتي الخطبة في أسلوب فصيح محكم يكاد يخلو من العامية، ويتجاوز مستواه الثقافي، وينبئ أن صاحبه عالم دين أصيل، وإن كانت مفردات حياته الواقعية لا تشير إلى شيء من ذلك!
تخبرنا الرواية طرفا من حياة حمزة حامد البراوي وحرمانه العمل بالنيابة والقضاء بسبب السمعة السيئة لأسرة البراوي، مع أن والده كما صورته الرواية يبدو استثناء بتربيته الإسلامية وأخلاقه العالية وسيرته الطيبة بين أهل القرية وميله إلى العمل الطيب والتصالح مع الناس، وتصحيح ما يقع فيه إخوته من جور وانحرافات وتجاوزات، ويجنح دائما إلى حب الخير والتزام الاستقامة. يشعر حمزة أن مستقبله في النيابة العامة وفي القضاء سكة مظلمة تماما، فضلا عن أنها مليئة بالحسك والأشواك السامة. (الرواية، ص 82).
الخال والوالد
بيد أن حمزة يكتشف خاله المحامي الكبير عبد الودود القصبي، فيفتح أمامه آفاقا أخرى لم تكن متاحة له من قبل. صحيح أن حمزة له ثقل اجتماعي في القرية بحكم أخلاقه وانتسابه إلى أب كان محبوبا من الناس دون عائلته وهو الشيخ حامد البراوي، وكلمته لها تأثير مثلما حدث في إقناع رشاد أبو ستيت بالتخلي عن رغبته في الزواج من بنت عمه حميدة التي لا تريده. ولكن اكتشاف خاله المحامي كان تحولا كبيرا في حياته، فالرجل له مكانة تعرفها عائلة البراوي جيدا، ويحفظ الأوراق المهمة التي وضعها والده الراحل عنده وتجعل عمه عابد الذي لا يبالي بحقوق الآخرين يحسب له ألف حساب، وهو وأمه اليوم في أشد الحاجة إليه، “وهذه أنسب فرصة للسفر إليه في الكتمان” (الرواية، ص 105).
يكتظ البناء الروائي بلغة الخطابة والهجاء للمتدينين المسلمين ووصمهم بالتطرف ووصفهم بأقبح الأوصاف، في الوقت الذي يتملق فيه الطائفة ويرسم لهم صورة وردية في التفكير والسلوك..
صورة أسوأ
خذ مثلا حديثه عن ابني عابد البراوي الذي ترى الرواية أن اليهودي أفضل منه. ولداه- مصطفى وجمال- صورة أسوأ منه. الأول يشغل منصبا مهما في التعليم، ووعد سائقه فرج المفصول من التعليم بإعادته إلى التدريس، فيكتب عنه مذكرة قانونية تسوئ صورته أكثر، وتقطع عليه الطريق تماما كي لا يعود إلى التدريس أبدا، ويكتب عنه أنه علماني، يعني شيوعي كافر لا يؤتمن على تربية النشء في المدارس، (الرواية، ص116)، ونسيت الرواية أن السلطة لا تهتم بوجود الشيوعيين او العلمانيين في التعليم أو غيره من المجالات، بل إنها مكنتهم من التعليم والإعلام والصحافة والثقافة وكل مرافق صناعة المخ على مدى ستين عاما أو يزيد، وهي تتحرك وتنهض لمواجهة شخص ملتح يشتم فيه رائحة التدين الحقيقي، لأنها تعده خطرا على النظام العام، ومصطفي عابد لو فعل ذلك افتراضا ضد فرج عوقب على فعله وخسفت به الأرض واتهم بالتطرف والإرهاب. ثم إن الرواية تجعله فصاميا فقد عاد من الإعارة في السعودية بعد خمس سنوات (الإعارة أربع سنوات رسميا)، وبنى دارا في كفر الشيخ، وعاش في حالة دروشة صار فيها حنبليا (متشددا) في كل كبيرة وصغيرة، على غيره فحسب، وخلف الجدران فهو بحبوح لا يعترف بشيء على الإطلاق. (الرواية، الصفحة نفسها).
سعودي صرف
أما جمال عابد البراوي، فقد أمضى خمس سنوات في مدينة أبها السعودية، وعاد سعوديا صرفا يلبس الدشداشة والعقال، البلدة كلها استغربت وسخرت. الناس هنا يحبون أخوتهم في السعودية ولكنهم يؤمنون أن لكل إنسان هوية وشخصية في بلده، راجت النكت، وانتشرت الدشداشة، وصار أبو جمال وأخوته يلبسونها، وتعلم الخياطون في البلدة تفصيل الجلباب السعودي أبو نصف ياقة مقفولة (نسيت الرواية أن هذا الجلباب مصري صميم، بل كان يلقب بالطنطاوي إزاء الجلباب الذي كانت له ياقة كاملة مثل ياقات قمصان البدلة، وكان الحُجّاج المصريون يوزعونه على فقراء مكة أيام الحج على الجمال والسفن)، ولم يكتف الناس بذلك بل راحوا يبعثون لاستيراد الجلباب من السعودية بقماشه السكروتة (الحرير) الهفهافة، ويتبختر الواحد منهم وهو يمشي في شوارع القرية مرتديا هذا الجلباب، والريح تواجهه فيعصف به ويحصره بين ساقيه وتتجسد عورته كأرنب يتطوح يمينا وشمالا تحت الجلباب بشكل قبيح تتحرج منه النساء وخاصة الفتيات مثلما يثير غضب الرجال (الرواية، ص 117).
البلطجية
ويضج البناء الروائي بالحشو والخطابة الزاعقة والحملة الدعائية التي تشبه الحملات الصحفية ضد من يسمونهم بالمتطرفين، وكأن الشعب والمدارس والمدرسين صاروا متطرفين متشددين مشغولين باللحى الكثة والجلاليب، وعلى فرض ان هناك أفرادا أو بعض الجماعات يمارسون هذا التطرف، فإن وجودهم يتضاءل إلى جانب وجود فئة البلطجية مثلا، وبعض الإحصائيات تشير إلى أن القاهرة وحدها تحمل في أحشائها نصف مليون بلطجي (على الأقل) يمارسون العنف والضرب والسرقة وفرض الإتاوات واستخدام الأسلحة البيضاء، وإخضاع الحارات والشوارع لإرادتهم ورغباتهم، بيد أن الرواية تطلق خطابها الدعائي لا الفني في هجاء المتدينين الإسلاميين بصورة فجة عندما تعلن أن المدرس حين يذهب إلى المدرسة ليؤدي دوره التربوي عليه أن يخلع ميوله ومعتقداته الشخصية (تقصد دينه وكأنه قادم من طائفة محدودة وعليه احترام رأي الأكثرية الساحقة التي لا تؤمن بهذا الدين!)، ويلتزم بالأعراف والتقاليد المرعية في المظهر والسلوك ناهيك عن التزامه بالمنهج العلمي الذي أقرته الوزارة ووضعت فيه فلسفة الدولة في التربية والتعليم. وهذا كلام لا بأس به، ولكنه درس نظري يفترض أن الدين لا يقرّ الأعراف ولا التقاليد، وعلى المدرس أن يتخلى عنه تماما وفقا لهذه المقالة المحشورة في السرد الروائي ويمكن انتزاعها لتكون موضوعا مستقلا ينشره الكاتب في إحدى الصحف أو المجلات.
الدشداشة والعقال
تصف الرواية جمال عابد بأنه يأخذ الأمور “سبهللة”، ويتعامل بمنتهى الاستهتار مع مناهج الوزارة، ويذهب إلى المدرسة بالدشداشة والعقال والشبشب، وتبرز عورته القبيحة أمام الصبيان والبنات “والكلوت” الأبيض أو الملون ظاهر مع الفانلة على جسده القمحي الغامق ” ويعلم التلاميذ أشياء غريبة عن أجدادنا الفراعين الكفرة!”
وترتفع حدة الخطابة والبذاءة والهجاء في تناول سلوك وأفكار جمال عابد وأمثاله حيث لا يجدون من يردعهم، فهذه كائنات ولدت في الزبالة وفيها تعيش. ناظر المدرسة لحيته واصلة إلى صدره، وزبيبة الصلاة ورم داكن في جبهته يفرز لون الجير كأنه يتعهدها بالتربية والنفخ والعجن لتكون لا فته يراها الأعمى ليتأكد أن هذا من عتاة الركّع السجد، بيده مسبحة طويلة هو الآخر قادم من الإعارة في السعودية شبع فيها حتى التخمة والبشم.. كائنات تشع بالعدوانية أو بافتراض العدوانية فيمن ليس ملتحيا وبلا زبيبة. يرتهب منهم الأطفال فيضيع تركيزهم، تتجمد أخيلة الأطفال رعبا من وصف جهنم وعذاب القبر والسعير يوم تقوم القيامة. حضرة الناظر لم تعجبه حجرة الأشغال التي يتنفس فيها الأطفال ويظهرون قدراتهم الإبداعية، فقال: إن الرسم والنحت على أي مادة، وكذلك الموسيقى حرام ولهو تجد فيه الشياطين مرتعا خصيبا، وقام بتحويل الحجرة إلى مصلّى.. صارت مهزلة يومية حين تحولت دورة مياه المدرسة إلى ميضأة همجية تشكو من تخمة الغائط وخراب الصنابير والسيفونات والأحواض. صارت المدرسة مستنقعا بمعنى الكلمة ومن يعترض فهو يعترض على الصلاة. لا يا معلم الغبرة، هذا ليس من غضب الله إنما هو من مؤخرة سيادتك عدم المؤاخذة ومؤخرات أمثالك المطروح فيها البركة..
جرس الوضوء!
على الجانب الآخر تتحسر الرواية على التلاميذ النصارى الأقباط. منظرهم يشرخ القلب، ما إن يدق جرس الوضوء(؟) لصلاة الظهر بدلا من الفسحة، يصطف الطلاب للصلاة ويبقى في الفصل خمسة ستة من الأقباط، يرميهم المعلمون من الشباك بنظرة اشمئزاز! ومعلم سمج يعرف أنهم أقباط فيتجاهل ويسألهم في شخطة قاسية: قاعد ليه أنت وهو؟ الأخ جمال حين يسرد قصة الدعوة الإسلامية، لا يتورع عن تثبيت نظره على التلاميذ الأقباط حين يتحدث عن الكفار والنصارى ومكائدهم، فينشر النفور بين التلاميذ النصارى والمسلمين. (الرواية، ص 117- 122).
تتجاهل الرواية واقع التعليم وأحوال الناس في مصر، وهذا وجه من وجوه عدم حضور الزمن في السرد. فالمصريون قبل قرن من الزمان كانوا يبعثون المعلمين إلى الدول العربية ويدفعون مرتباتهم من الخزانة المصرية، وكانوا هناك يعلمون ويقدمون القدوة حتى تدحرجت بهم الأحوال وتغيرت نتيجة للظلم الاجتماعي والقهر السياسي والفساد الاقتصادي، الآن ينطلق كثير من أبناء الشعب على وجوههم باتساع أرض الله، بحثا عن دخل يوفر لهم الحياة الفطرية ولا يجعلهم يتسوّلون، كما تنسى الرواية أن انهيار التعليم كان بسبب الفشل الإداري الذريع، والتجارب العبثية التي قام بها مسئولون غير مسئولين، حيث انتهى تقريبا الدور الأساسي للمدرسة والمعلم في التربية والتعليم، وخلت المدارس من الطلاب والمعلمين لصالح الدروس الخصوصية في البيوت، والسناتر في الشقق الخاصة والمباني المستأجرة، فلا مجال لجمال عابد ولا الناظر صاحب اللحية التي تصل منتصف صدره ولا إقامة الصلاة في الفسحة وترك التلاميذ النصارى في الفصل يتخطفهم المعلمون المتدينون السفلة كما يشير السرد الروائي. المدارس خاوية على عروشها ولا يؤمّها الطلاب إلا أيام الامتحانات! ولو كان هناك اهتمام حقيقي بالتربية والتعليم تتحدث عنه الرواية لما انهارت المدرسة، ولما ألقي اللوم على أصحاب اللحى الذين يندر وجودهم في الواقع التعليمي والاجتماعي، ولا تأثير كبيرا لهم إن وجدوا.
حذف المادة
طوال فترة التعليم قبل انقلاب 1952 وبعده كان التلاميذ من المسلمين والنصارى يتعايشون معا داخل الفصل وعلى أرض الملعب وفي الشوارع دون حساسية، وأذكر أن الطلاب المسيحيين كانوا يجلسون مع زملائهم المسلمين في حصة التربية الدينية برغبتهم حين يغيب مدرسهم، وبعد أن قرّرت الوزارة حذف المادة من حساب المجموع لم تعد الحصة خاصة بالتربية الدينية ولا تعني المسلمين أو غير المسلمين، وأضحت فرصة لتدريس المواد الأخرى: الإنجليزي، الفرنسي، الجبر، الهندسة، الميكانيكا…إلخ. يدخلها مدرسو هذه المواد للانتهاء من المقرر، إن وجد الطلاب والمدرسون، ولم يكونوا في السنتر أو الدرس الخصوصي. فالبكاء والنشيج من أجل التلاميذ النصارى في أثناء التربية الدينية أو الصلاة أو غيرها افتعال لا محل له.
الجوائز والرضا
إن تملق النصارى قد يؤدي إلى الحصول على جوائز مادية ثمينة، ويحصد الرضا الحكومي، ويحقق الشهرة أو مزيدا منها، ولكنه يزيف التاريخ والجغرافيا، ولا يقدم فنا حقيقيا إنسانيا يعيش مع الأيام، لأنه ببساطة شديدة مجرد دعاية تزول مع زوال أسبابها.
يتخلص السرد من عدد غير قليل من الشخصيات الروائية بالموت الفجائي كما نرى مثلا في وفاة مصطفى عابد، الشخصية الفصامية الذي قضى نحبه فجأة عقب ترقيته التي لم يهنأ بها (الرواية، ص 129).
ثم نرى العرس الذي يتحول إلى مأتم، حيث يقتل رشاد أبو ستيت العروسين، ويجد من يقتله، وتسيل الدماء، بينما ينتظر الناس في القرية حكم المحكمة في مقتل محفوظ نجل إسطاسية. ثم وفاة جودة البراوي صاحب مشروع الدواجن زوج مارجريت فجأة مما يحدث صدمة نفسية لحمزة (الرواية، ص 140، 154).
في النصف الثاني من الرواية يعود البناء الروائي إلى سرد الأحداث في إطار من المبالغات بعد أن حشاها بالهجاء البذيء الرخيص للشخصيات التي تنتمي إلى الإسلام ويراها متطرفة دينيا، دون أن يقدم المقابل لصورة المسلم الطبيعي الذي يفترض بمنطق الرواية أن يكون معتدلا وغير متطرف، ويشارك في الحياة اليومية ويتعامل مع الناس والمجتمع في عفوية إنسانية، ولا يقتصر على شخص واحد هو إمام المسجد الشيخ حامد البراوي الذي رحل عن الدنيا وترك عائلة مسمومة غارقة في الطمع والجشع والصراعات الاجتماعية.
قصة رومانتيكية
يؤسس البناء لقصة حب رومانتيكية عملية- إن صح التعبير- بين حمزة حامد البراوي وبين ابنة خاله المحامي الكبير، بعد انتقاله إلى طنطا للتدريب على المحاماة في مكتبه، ونشهد تحولات الفتاة من الصورة المتأوربة إلى الصورة الريفية دون حيثيات أو مقدمات تشرح أسباب تحولها أو توحي بها أو تفسرها، مع أن هذه الأسباب قد تكون بسيطة وحاضرة، وهو رغبتها في الاقتران بحمزة، ولكن البناء الروائي لم يفصح عن ذلك، وفي خلال هذه القصة الرومانتيكية تنفجر اعترافات بعض الشخصيات بالقتل والفساد دون تقديم بواعث هذه الاعترافات. وتتلاحق أحداث عديدة عن انفلونزا الطيور ووفاة جمال عابد ومرض عبد المعبود وحريق المزرعة وتخارج الشركاء (الرواية 164- 176).
وتستخدم الرواية مصطلحا سرديا شعبيا، حين يحكي رجل بسيط حكاية أو قصة أو حدثا، ويريد أن يوضح ما سبق من وقائع، أو يفسرها، وهو مصطلح “نرجع مرجوعنا” (الرواية ص، 199) حيث يستدرك ما فات سرده : “نرجع مرجوعنا للمعلم جرجس غطاس ، لما شاف ما يجري فوق أرضه من فحت وبناء، سأل صديقه الذي يسهر معه في خمارة دفينة بمدينة دسوق يذهبان إليها يوم الخميس من كل جمعة….”، وهو تفسير مواقف حدثت منذ زمن بعيد قبل موت جرجس وابنه محفوظ ..
وهناك مصطلح آخر يستخدمه الفلاحون في السرد “فتك في الكلام” (ص42) وحلو الكلام، (ص 200) نجيء الآن لحدوتة المزرعة (ص، 200).
تحولات حمزة
ومن خلال قصة الحب الرومانتيكية نتعرف على تحولات حمزة النفسية والاجتماعية، ومواجهته للناس، وتنازع الصراع بين الاندماج والانعزال، وعلاقته بالمتنافسين أو المتصارعين بمعنى آخر.. ويتأكد رفض تعيينه في النيابة بسبب عائلته المجرمة سيئة السمعة، وهو ما يجعله يستقر في مكتب المحاماة. (الرواية، ص232).
ويقدم السرد نوعا آخر من المبالغات، كما نرى في عملية وفاة العمدة عواد البراوي، حيث يشير إلى طبيعة الوفاة الفجائية، والجنازة البائسة التي لم يحضرها غير عدد قليل من الناس حتى شيخ الخفر والخفراء لم يحضروا! بسبب انشغال الناس في أعمالهم وسط الأسبوع (الريفيون يتركون أعمالهم الرسمية وغير الرسمية من أجل جنازة أي شخص في القرية، وتحضر القرية كلها في تشييع المتوفى!)، ويشير إلى حجم المتوفي الثقيل، وتعثر حملة الجثمان في حمله، وغياب من يصلح لصلاة الجنازة، لأن الحاضرين “لا يوجد بينهم من يركعها أصلا”، وتقدم العم عابد (شقيق العمدة الراحل) ليؤم المصلين في الجنازة فيخلط بين القرآن الكريم والحديث الشريف، ويخطرف خطرفة لا يمكن احتمالها( صلاة الجنازة سرية، ولا يجهر فيها أحد بالقراءة: إماما أو مأموما) وهو ما جعل المصلين مستائين، وفرض عليهم الضحك الذي زيفوه إلى بكاء ليتفادوا الحرج! وتستمر المبالغات في انكسار النعش ووضع المتوفى على عربة كارو يجرها حصانان ظهرت قدرا وكانت تحمل أخشابا فأنقذت الموقف ونقل الجثمان مقابل خمسين جنيها!، (الرواية، ص234- 237).
الدفن والعزاء
هذا موقف مفتعل لدفن عمدة قرية كبيرة، فيها تقاليد وعادات، تجعل التحضير للجنازة والعزاء من الأمور التي يحتشد لها الناس جميعا، وخاصة إذا كان الراحل ينتمي إلى أسرة قوية، وهذا المشهد الذي تقدمه الرواية لا يمت إلى القرية المصرية بصلة، ومعروف أن الخلافات والنزاعات بين العائلات يتم نسيانها عند الموت ويخرج جميع الناس لتوديع الراحل وتقديم العزاء فيه، فما بالك بعمدة القرية؟
هل يمكن أن يتجاهله شيخ الخفر أو الخفراء، وهو الذي يأمرهم وينهاهم في أمور القرية ومشكلاتها؟