تعد مرحلة الطفولة أهم مراحل حياة الإنسان؛ حيث تتشكل خلالها شخصية الفرد، وهي تحظى –من ثَمَّ- باهتمام بالغ في العلوم المعاصرة؛ لما يكتسبه الطفل أثناءها من سلوكيات قد تجعله إنسانًا سويًّا ذا شخصية قوية ومؤثّرة، أو العكس، وفي المثل: «من شبَّ على شيء شاب عليه»، والطفل يولد على الفطرة، وأبواه هما اللذان يرسمان سعادته أو شقاوته، وصلاحه أو فساده، وبره أو عقوقه، كما جاء في الحديث: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسّون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها» (رواه مسلم).
وللطفل في الإسلام الحق في أن يلقى من والديه ومن غيرهما المعاملة الحانية، وأن يُنشّأ على القيم الإنسانية والأخلاقية، وله الحق في الاستمتاع بطفولته، وليس في هذا أي تعارض مع تأديبه وتنشئته تنشئة سوية سليمة؛ إذ يراعي الإسلام التدرّج في التربية ومراعاة قواعدها، بالتوجيه المستمر، والاهتمام اللائق، وشغل وقت الطفل، وربطه بالصداقات الصالحة، فضلًا عن قدوته المتمثلة في والديه والمحيطين به.
عهد جديد للطفولة
لقد انتقلت الطفولة مع مجيء الرسالة المحمّدية من طور الإهمال والجفاء إلى طور الاهتمام العاطفي والحنوِّ البالغ، كان الناس إذا رأوا الثمر جاؤوا به إلى رسول الله ﷺ، فإذا أخذه قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدّنا، ثم يدعو أصغر وليد له، فيعطيه ذلك الثمر» (رواه مسلم)، وورد عنه ﷺ: «يؤتَى بالرجل يوم القيامة، وما له من حسنة تُرجى له الجنة، فيقول الرب تبارك وتعالى: أدخلوه الجنة فإنه كان يرحم عياله» (ابن عساكر).
ووضع النبي ﷺ بأقواله وأفعاله وتقريراته قواعد لتربية النشء سبقت ما توصّلت إليه علوم النفس والاجتماع والتربية بقرون، أسّست هذه القواعد لأساليب التعامل مع الطفل خلال مراحل الطفولة الثلاث؛ المبكرة والمتوسطة والمتأخرة، وهي تهدف إلى تشكيل عقل وعاطفة الطفل بما يضمن سَوَاءَهُ بدنيًّا وروحيًّا، وضمان تفاعله مع مجتمعه دون رُهاب أو اضطراب أو مما يُشاهَد عند البعض من فقدان الثقة بالنفس وامتهان الذات.
الرحمة بهم والشفقة عليهم
كان ﷺ أرق وأرأف الخلق بالأطفال، وكان شديد العطف عليهم، يقبّلهم، ويضمّهم، ويلاعبهم، ويحزن لفقدهم، وورد أنه كان يصلي ذات يوم وهو يحمل أمامة بنت زينب، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام حملها، وعن عبدالله بن بريدة قال: رأيت النبي ﷺ يخطب، فجاء الحسن، والحسين، رضي الله عنهما، وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل النبي ﷺ فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال: «إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أستطع أن أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» (رواه الترمذي)، ومات لإحدى بناته طفل صغير، فلما رُفع إليه فاضت عيناه، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال ﷺ: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» (رواه البخاري).
التربية بالحب
ومما ورد عنه ﷺ في هذا الجانب: عن عمر بن أبي سلمى قال: «كنت غلامًا في حجر رسول الله ﷺ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله ﷺ: «يا غلام، سمِّ الله وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك»، فما زالت تلك طعمتي بعدُ. (رواه البخاري)، والتربية بالحب لا تتنافى مع الجدية والحزم، وهناك فرقٌ بين أن تعامل طفلك بهذه الصورة، أو تدلّـله، وبالتالي تفسده، والحزم لا يعني القسوة والجفاء وفقر المشاعر تجاه الأولاد، إنما يعني وضع الضوابط والحدود التي يجب ألا يتخطاها الكبير أو الصغير منهم.
القاسي لا يصلح أباً
عن أبي هريرة: قبّل رسول الله ﷺ الحسن بن عليّ، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله ﷺ ثم قال: «من لا يرحم لا يُرحم» (متفق عليه)، إن القاسي لا يصلح أبًا؛ لأنه لا يعرف أبجديات الأبوة، بل يضع نفسه في مواجهة مع ابنه الصغير، فيصيبه بالعاهات الجسدية والنفسية، إن استخدام الشدة والعنف مع الطفل يترتب عليه شخص ذو ضمير شديد الحساسية، يحاسب نفسه أو غيره على كل صغيرة وكبيرة، قد يمتنع عن القيام بأي نشاط خوفًا من العقوبة، ويكون مهزوزًا لا يستطيع المطالبة بحقوقه، قلقًا مترددًا، يشعر بالعجز عند مواجهة المواقف.
تربية الصِّغار تحتاج إلى صبر
يقول النبي ﷺ: «إن في الجنة درجة لا يبلغها إلا ثلاثة؛ إمام عادل، أو ذو رحم وصول، أو ذو عيال صبور» (رواه الديلمي)، إن الصبر على الأبناء واحتمال صخبهم وكثرة حركتهم وأفعالهم الطفولية المستفزة مما يعين الولد على بر أبويه، عكس من تسرع أيديهم وألسنتهم بإيذاء أبنائهم، يقول النبي ﷺ: «رحم الله والدًا أعان ولده على بره» (رواه ابن حبان)، ويقول ﷺ: «أعينوا أولادكم على البر، من شاء استخرج العقوق من ولده» (رواه الطبراني).
دعم ثقة الطفل بنفسه
وكان ﷺ يدعم ثقة الأطفال بأنفسهم؛ ليشبوا رجالًا أصحاء النفوس، أقوياء الإرادة؛ «فكان ﷺ يلقى الصبي وهو راكب ناقته، فيدعوه إلى الركوب معه؛ ليدخل السرور على قلبه»، وعن جابر بن سمرة، رضي الله عنه، قال: «صليت مع رسول الله ﷺ صلاة الأولى -أي الظهر- ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهما واحدًا واحدًا، ثم قال: وأما أنا فمسح خدي، فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جونة عطار».
وكان يحاور الطفل
وكان ﷺ يدعو إلى محاورة الطفل، وإقناعه، وإلى التماس الأعذار له والصبر عليه؛ لصغر سنه وقلة خبرته، عن رافع بن عمر الغفاري قال: كنت وأنا غلام أرمي نخلًا للأنصار، فأُتي النبي ﷺ فقيل: إن ها هنا غلامًا يرمي نخلنا، فأُتي بي إلى النبي ﷺ فقال: «يا غلام، لِمَ ترمي النخل؟!»، قال: قلت: آكل، قال: «فلا ترم النخل، وكُلْ ما يسقط في أسافلها»، ثم مسح رأسي وقال: «اللهم أشبع بطنه» (رواه أحمد).
ويحترم رأيه
وكان ﷺ يحترم رأي الطفل ومشاعره ويقدِّر رغباته، فلا يجوز بالتالي إكراهه على شيء، عن أبي هريرة، قال: «جاءت امرأة إلى النبي ﷺ وأنا عنده، فقالت: فداك أبي وأمي؛ إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وهو يسقيني من بئر أبي عتبة، وقد نفعني، فقال ﷺ: «استهما عليه»، فقال زوجها: من يجافني في ولدي يا رسول الله؟ فقال ﷺ: «يا غلام، هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ الغلام بيد أمه، فانطلقت» (رواه الحاكم).