لا بد من الارتفاع في قراءة الأحداث المتسارعة من المستوى التكتيكي لعالم الأشخاص والأشياء المادية إلى المستوى الإستراتيجي لعالم الأفكار والقيم الإنسانية، وهي القراءة التي تتجاوز لغة الأرقام من الرِّبح والخسارة في الواقع المشاهَد والمتحرِّك، إلى القراءة الكلية، والتحليل الإستراتيجي، والاستشراف المستقبلي.
فما حدث في معركة «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، هو فعلٌ جهاديٌّ متقن ومبدِعٌ، يمثِّل محطةً فارقةً، وحَدثًا إستراتيجيًّا، ولحظةً استثنائيةً، وأداءً معقَّدًا، وهو خارجٌ عن التوقُّع، وعن النمطية التقليدية في الصراع، وسيكتب التاريخُ هذه الملحمة بأحرفٍ من العزِّ والافتخار، وهي تتجاوز في تداعياتها المستقبلية النتائج المادية الآنية من الإنجازات أو الانكسارات.
فقد مثَّلت زلزالاً مدوِّياً في وجه العالم من أجل تصويب البوصلة، وإعادة القضية إلى سُلَّم أولويات المجتمع الدولي، كأهمِّ قضية مؤثرة في هذه التحوُّلات الإستراتيجية.
إذْ يُجمِع المراقبون والمحلِّلون بأنَّ جولة المواجهة الجديدة بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصُّهيوني تختلف تمامًا عن باقي الجولات السَّاخنة في الصِّراع الوجودي بينهما، وهو الحدثُ الإستراتيجي غير المسبوق منذ 76 عاماً من قيام هذا الكيان الصهيوني عام 1948م، سواء من حيث الدلالات والمآلات، وهو ما يضفي على هذه المواجهة أبعادًا إستراتيجية عميقةً مهما كانت نتائجها، إذ هي حربٌ قاسيةٌ وطويلة، التي لامَسَت في جوهرها الأخطار الوجودية لمستقبل الكيان الصُّهيوني، وهو ما يفسِّر هذا التدخُّل الغربي الدَّاعم، وبشكلٍ قويٍّ ومباشر وعلى رأسهم أمريكا، لـ«إسرائيل».
فقد اعتُبرت معركة «طوفان الأقصى» بمثابة الصَّدمة الكبرى، والحدث الإستراتيجي الأخطر في تاريخ هذا الكيان منذ تأسيسه، الذي أكَّد انهيار منظومته الأمنية والعسكرية أمام الخطط الإبداعية والأداء البطولي المتميِّز للمقاومة، ولا يزال العالم في حالة الذُّهول والدَّهشة مما حدث لأكذوبة الجيش الذي لا يُقهر، وخرافة جهاز الاستخبارات الذي لا يُهزم، وَوَهم القوة الإقليمية التي لا تُضَاهَى.
وقد عكست هذه المعركة بصدقٍ، رغم كُلفتها المادية والبشرية من التضحيات العظيمة، قدرة المقاومة على الإرادة والإدارة والسيطرة والتحكُّم في الهندسة الإبداعية لهذا الصراع، وقد رسمت المشهد المستقبلي بما يقرِّب الصورة النَّاصعة للنَّصر الكبير والتحرير الشَّامل لفلسطين، وقد سقطت كلَّ المسلَّمات السَّابقة بالتفوُّق المطلق لهذا العدو، وقد اعترف بأنَّ ما يجري لا يشبه أيَّ شيءٍ عرفه في تاريخ القتال من قبل.
فهو أمام الصَّدمة بالفشل الاستخباراتي والانهيار العسكري؛ ففي الوقت الذي تمَّ التسويق للصُّورة الخرافية للجيش الذي لا يُقهر، وجهاز الاستخبارات الأسطوري الذي لا يُهزم، تتمكن المقاومة من القيام بهذا الهجوم الضَّخم؛ برًّا وبحرًا وجوًّا، من دون أن يثير أدنى انتباهٍ لكلِّ استخبارات العالم، بما يؤكِّد التفوُّقَ الاستخباراتي للمقاومة.
كما أسقط هيبة هذا الكيان الصُّهيوني عالميًّا، بالرغم من حجم نفوذه في الدول الغربية، واختراقه للدول العربية، والعلوِّ الكبير الذي لم يصل إلى مثله في التاريخ اليهودي، وحجم الترسانة النووية والعسكرية والاستخباراتية والتقنية والتكنولوجية واللوجستية، وحجم القساوة في الحصار المطبق على قطاع غزة لمدة 17 عاماً؛ برًّا وبحرًا وجوًّا، فقد استطاعت المقاومة، وبإمكاناتٍ ذاتيةٍ متواضعة، أن تُسقط هذه الأسطورة، وتبدِّد هذا الوَهْم، وتزعزع الثقة في هذه الخرافة بهذه العملية النوعية.
ستترك هذه المعركة آثارًا عميقة في الوجدان الصُّهيوني، وفي جدوى قيام هذه الكيان أصلاً، وهَدِّ مقوِّمات بقائه من أساسه، ومدى قدرته على الحفاظ على مكتسباته، فهي ستتسبَّب في هجرةٍ عكسيةٍ لـ«الإسرائيليين»، وفي اهتزاز العقيدة العسكرية لدى الصَّهاينة، وستضرب هذا الكيان في عمق إستراتيجيته للتمدُّد في الأراضي الفلسطينية بالاستيطان، والتغوُّل بالتطبيع في المنطقة العربية، وستتراجع أهميته الإستراتيجية لدى الدول الغربية، مهما أبدت مساندته الاضطرارية، إذْ سيكون عبئًا ثقيلاً عليهم في المستقبل.
لقد جرحت المقاومةُ «إسرائيل» جُرحًا عميقًا في كبريائها، وكسَّرت هيبتها كسرًا شديدًا لم يسبق له مثيل، وهشَّمت صورتها الأسطورية بشكلٍ دراماتيكي فظيع، فانفجر الجنون الذي يسيطر على العقل الصهيوني المتوحِّش في ردّ فعله، وهي وحشيةٌ متوقَّعة وغير مستغربة، فهو لا يحتاج إلى تبريرٍ حتى يرتكب كلَّ هذه المجازر والفظاعات، إذْ لم يقصِّر في تاريخه بأسوأ من هذا.
وستكون من النتائج الإستراتيجية لمعركة «طوفان الأقصى» على المستوى العربي، إنهاء أوهام التطبيع، ووقف المسلسل العبثي لمشاريع التسوية، وتعرية سوءات الحلول السياسية أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي والعالمي، وتثبيت خيار المقاومة، وإحياء فريضة الجهاد في الأمة، إذْ نحن الآن أمام واقعٍ جديد، وهو الحسم في الخيار الحتمي للمقاومة، وتعميمه على كافة السَّاحات، وقد وصلت إليه كلُّ الجبهات، بعد استنفاد كافة الخيارات، وهو يومٌ تاريخيٌّ، سيشكِّل حتمًا مرحلةً جديدةً، أيًّا كانت التطورات والانزلاقات في هذه المعركة، وسيجعل «طوفانُ الأقصى» أعداء فلسطين من المُغْرَقِين، وأنَّ ساعة حتمية زوال «إسرائيل» قد اقتربت فعلاً، التي لم تعُد مجرد أحلامٍ رغائبيةٍ، بل أصبحت يقينًا تتجلَّى آياتُها في الخيال الذي تجسَّد في الواقع، بالرَّغم من كون «إسرائيل» هي معجزةُ الصهيونية في العصر الحديث، وذلك بتأسيس دولةٍ من العدم عام 1948م، وهي قصةُ نجاحٍ نادرةٍ لليهود.
لقد مثَّلت معركة «طوفان الأقصى» صدمةً إستراتيجية جديدةً وخطيرةً هدَّدت مستقبل «إسرائيل»؛ وأظهرت بوضوح انهيارها المتسارع، فهي تخوض معركة البقاء الثانية لها منذ عام 1948م، وتخوض أطول الحروب في تاريخها (سنةٌ كاملة)، وهي عاجزةٌ عن تحقيق أهدافها المعلنة، رغم الدعم الغربي المطلق، بل تتلقَّى هذه الخسائر الإستراتيجية على كافة المستويات وفي مختلف المجالات.
لقد أثبتت معركة «طوفان الأقصى» أنه لولا هذا الدعم الغربي والتدخُّل الأمريكي المباشر لانهارت «إسرائيل»، وهو ما أكَّده السفير الأمريكي السابق في «إسرائيل» مارتن إنديك حينما قال: «إنَّ استمرار وجود «إسرائيل» يعتمد على الولايات المتحدة الأمريكية ودعمها»؛ وهو ما يعني أنَّ هذا الكيان اللقيط ما هو إلا تجسيدٌ لارتباط «الإسرائيليين» بالمشروع الاستعماري الاستيطاني الغربي، وليس بالارتباط الأزلي بين اليهود و«أرض الميعاد» كما يدَّعون دينيًّا.
لقد أدرك الغرب هذه الرسالة العميقة للمقاومة في بعث المشروع التحرُّري، فاتَّجه بكل تلك الآلة التدميرية النازية، بمحاولاتٍ انتقاميةٍ يائسةٍ لجرِّها إلى الوراء من جديد كمأساةٍ إنسانية، ليمحو تلك الصورة المشرقة لمشروع التحرير الكامل، وينزع هذا الإنجاز الإستراتيجي غير المسبوق عن سياقه، بعدم الربط بين الاحتلال النازي والحق المشروع في مقاومته، وأنه ليس مشروعاً لتحرير فلسطين والقدس والمسجد الأقصى فقط، بل هو مشروع لتحرير الأمة العربية والإسلامية، بل والإنسانية جمعاء من هذه الهيمنة الغربية.
ولا شك بأنَّ هذه المعركة مثَّلت نقطة تحوُّلٍ جيوستراتيجي في هذا الصراع على المستوى الإقليمي والدولي، أعطت دَفعة قوية للتعجيل بإعادة تشكيل النظام الدولي الجديد، وإنهاء الأحادية القطبية، تقاطعاً مع التوجُّه الجامح للصين وروسيا في ذلك.
فالحرب الرُّوسية – الغربية في أوكرانيا معركةٌ وجودية، وهي ثورةٌ روسية على الغرب، وكانت أغلب العقول الإستراتيجية تبشِّر بأنَّ تلك الحرب ستكون صاحبة الفضل في تغيير النظام العالمي، ومع أن هذا الهدف ليس خافيًا على القيادة الروسية، وقد صرَّح به الرئيس بوتين بشكلٍ مباشر، فقال: «إنَّ انهيار الهيمنة الغربية بدأ بالفعل، ولا عودة عنه»، إلا أنَّ تداعيات معركة «طوفان الأقصى» أقوى من حيث التسريع بمحاصرة المشروع الصهيوني، وإنهاء الهيمنة الغربية، وهو ما استشعره العقل الإستراتيجي الأمريكي جيدًا، فهرع إلى إنقاذ «إسرائيل» كمشروعٍ استعماريٍّ غربي، ليقينه بأنَّ زوال «إسرائيل» هو توقيعٌ على نهاية الهيمنة الغربية، صاحبة الأيديولوجية السرطانية «الصهيونية – المسيحية».
فهذه المعركة محطةٌ مفصلية، ولحظةٌ تاريخيةٌ استثنائية، تناغمت مع مسارٍ يتَّجه إليه العالم، وهو تغيير النظام الدولي، بإنهاء الزمن الأمريكي، والأحادية القطبية، وتعديل موازين القوة فيه، لصالح عالمٍ متعدِّد الأقطاب والثقافات والحضارات.