في عالمٍ يسوده التوتر الإنساني والتحديات المتصاعدة، تُعَدُّ إدارة الكفاءات والتمسك بالقيم المؤسسية عماد النجاح في المنظمات الخيرية، وفي تجربة فريدة، تبرز حكاية طبية تكشف عن عمق الأمانة والمؤسسية في مواجهة مجاملات العلاقات وضغوط السمعة.
بدأت القصة حينما تواصلت منظمة خيرية آسيوية مع نقابة مهنية في أحد الأقطار الكبرى، لاستقدام طبيب ذي كفاءة إلى مقرها للعمل في مجالٍ إغاثي، جرى الاتفاق، وتبادل الطرفان المخاطبات التي أكدت فيها المنظمة على طبيعة الوظيفة ومسؤولياتها بوضوح تام، لترسيخ قواعد التفاهم والتوثيق، وصل الطبيب إلى مقر عمله الجديد، لكن سرعان ما أبدى رغبته في تولي منصبٍ أعلى، مبررًا ذلك بسمعته الرفيعة في مجتمعه الطبي وعلاقاته القوية ببعض العاملين في المنظمة، كان واضحًا من أول وهلة أن هذا الطلب ليس مجرد تعبير عن طموح مهني، بل كان تعبيرًا عن نزعة للسطوة والتميز على حساب ضوابط العمل المتفق عليها.
ورغم أن الإدارة الطبية سعت جاهدة إلى توضيح طبيعة الدور الذي وُظّف لأجله، فإن الطبيب لم يبدِ استعدادًا للتراجع، في هذا الموقف، تتجلى معضلة القيادة بين مراعاة العلاقات والتمسك بالقيم والنظم، وفي ظل تعنت الطبيب، رأت الإدارة أن رفع الأمر إلى قيادة المنظمة أمرٌ لا بد منه، فاستُدعي الطبيب للقاء القيادة العليا، حيث أُتيح له فرصة للتعبير عن موقفه ومطالبه، كان النقاش بين القيادة والطبيب حوارًا صريحًا عكس حرص الإدارة على الإنصات واستيعاب الرؤية، إلا أن الطبيب، مدفوعًا بثقته في سمعته وعلاقاته، رفض كل مساعي الإقناع.
هنا، تجلت حكمة القيادة في الموازنة بين المبادئ والمصلحة، فأصدرت قرارًا بإنهاء خدمات الطبيب على الفور، خلال 72 ساعة من قدومه، في إشارة قوية إلى أن الالتزام بالقيم لا يلين أمام ضغوط المجاملات أو المواقف الشخصية، كما إن المراسلات والتعاقدات التي جرت بين المنظمة والنقابة كانت صمّام الأمان في هذه القضية، إذ ثبتت الحدود وحددت المسؤوليات، ولم يكن القرار السريع بإنهاء خدمات الطبيب اعتباطيًا، بل كان نتيجة لثقافة مؤسسية ترفض تهاونًا في المبادئ والإجراءات، وتضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار، وهو ما يؤكده المسيري حين قال: «المؤسسات الكبرى هي التي تلتزم بالتوثيق لأنها تعلم أن البناء الشفهي لا يصمد أمام عواصف الواقع».
إن هذه التجربة ليست مجرد قصة توظيف عادية، بل انعكاس لفلسفة إدارية عميقة ترى في الالتزام بالقيم المؤسسية نقطة قوة تتجلى في أصعب المواقف، ولا تهتز عند الامتحان، فهي فلسفة تضع الإنسان والقيم في قلب العملية المؤسسية، معتبرةً أن نجاح الأفراد لا يقاس بإنجازاتهم الفردية فحسب، بل بقدرتهم على تمثيل الروح المؤسسية وإثراء بيئة العمل بروح من التعاون والتفاني.
كما أنها تكشف عن عمق الرؤية التي تؤمن بأنَّ كل فرد هو جزءٌ من منظومة أكبر، وأن التزامه بمبادئ المؤسسة ليس مجرد واجب، بل هو أسلوب حياة ينبع من قناعة راسخة بأهمية العمل المؤسسي والتطور المشترك، فإن القرار الحاسم الذي اتخذته القيادة يعكس ما وصفه ابن القيم: «النفس إذا لم تُقم على قاعدة الحق والعدل، تهاوت في سُبل الهلاك والضياع».
في النهاية، تبرز هذه القصة كأنموذج يُحتذى به، يوضح كيف يمكن للمنظمات أن تحافظ على مصداقيتها وهيبتها من خلال اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، دون مجاملات أو محاباة، بالإضافة إلى توثيق التعاملات، كما أنها تبرهن على أن القيادة هي التي تعرف كيف تحفظ الأمانة وتوازن بين الرحمة والعدل، فالقيادة الحقيقية هي القدرة على تحقيق الخير من خلال استقامة المنظومة الإدارية والقيمية، هكذا، تبقى الأمانة المؤسسية في وجه التحديات، ترفع راية الحق وتستمد قوتها من الشفافية والمصداقية، مؤكدة أن الالتزام بالقيم هو حجر الزاوية في بناء مؤسسة راسخة ومستدامة.