من أخطر وأسوأ آفات عادة الدوران العابث في وسائل التواصل والفرجة، التسلي بمتابعتها أثناء ذكر الله تعالى! وبغض النظر عن الدوافع التي تدفع صاحبها للجمع بين ذكر الله تعالى والتسلي أثناءه، فهذان عملان لا يصحّ الجمع بينهما ويجب ألا يجتمعا؛ لأن قصد ذكر الله تعالى هو أن تتذكر تعظيم ربك وتسبيحه والاستعانة به، فتذكره في مجلس مخصوص –ولو كان بضع دقائق– تخلّص نفسك فيها من زحمة الانشغال بأي ملهيات أخرى من مشاغل الحياة مهما كان خطرها، فإذا رحت تتلهى وقت الذكر لم يعد ذكرًا، بل صار غفلة مقنّعة، فحالك أشبه بحال من لم يتذكر فلم يذكر! ثم تظنّ خطأ بأن الذّكر لا يثمر في قلبك وأنت لم تهيئ أرض قلبك لغرس صالح أصلًا!
والأدهى أنك إذا جئت ترتب لك نظام حياة ترصّ فيه كل الأعمال النافعة، بالتوازي مع هذه العادة الخطيرة –التقليب الفارغ في وسائل الفرجة والتلاهي– ستجد أن المعادلة عسيرة، وتظن أن السبب هو ثقل أو جدية الأعمال النافعة، والحق أن منبع الإشكال الرئيس هو ثقل تلك المواد «الخفيفة»، فخفّتها الظاهرة توهمك أنها لا تأخذ شيئًا من الوقت والطاقة، وتغريك بمزيد ومزيد حتى تكون هي ما يأكل الوقت والطاقة! فماذا ينفعك مثلًا أن تضبط مواعيد نومك أو تقلل ساعاته إذا كنت ستنفق أوقات يقظتك كالنائم أو العابث بين وسائل التواصل ومقاطع الفرجة؟! وما الجدوى من شحن خيالاتك بالأهداف والإنجازات، ونظام حياتك مبعثر لأنه قائم على اتباع هواك في التراخي والتململ واللهو والتلهّي!
والحل المباشر هو تطبيق عادة الانقطاع؛ انقطع لأي عمل تقوم به في حينه، بأن تقطع عن نفسك كل حبال الملهيات وتلق كل أبواب المشتتات، فإذا جئت تقرأ وردك أو كتابًا أو تقوم بتمارين رياضية، أغلق الهاتف والتلفاز، ولو احتجت أن تفصل الكهرباء والإنترنت فافعل! لكن إياك من استسهال النظرة العابرة كل حين، ستجد أن النشاط الذي خصصت له نصف ساعة يستغرق نصف يوم، لا بسببه هو، بل بسبب عبثك أنت أثناءه!
ونفس المبدأ يجب أن ينطبق على نهج ذكر الله تعالى، وهذه خطوات عملية تعين عليه:
– الصق وقت الذكر لصوقًا تامًّا بصلاة مما تصليها فرضًا كانت أو سُنة، قبلها أو بعدها، طالما لم يمنع مانع جادّ، فوقت أذكار الصباح مثلًا بعد صلاة الفجر مباشرة أو بعد ركعات الضحى أو صلاة الظهر حدًّا أقصى إذا لم تكن ممن يمكنه المواصلة بعد الفجر، ووقت أذكار المساء بعد صلاة العصر أو قبيل صلاة المغرب على الأكثر.
وبغض النظر عن التوقيت الشخصي للنوم، لا بد من ترتيب شأنك بحيث لا تفرّط في أذكارك مهما يكن الوقت الذي تجعلها فيه، ويكون لك حدّ أدنى تلتزمه ولا تنام بدونه، ويفيد في ترتيب وقت الذكر أن تعلم تصنيفه:
الذكر المقيّد تقييدًا ضيّقًا: فلا يسعك قوله في غير أوانه أو عمله أو حاله، كأذكار النوم والاستيقاظ ودخول الحمام والخروج منه ودخول البيت والخروج منه وما بعد الصلاة.. إلخ.
الذكر المقيّد تقييدًا واسعًا: وهو أذكار الصباح (ووقتها من بعد الفجر حتى الظهر)، والمساء (من بعد العصر حتى المغرب)، فهذان لهما أوانهما وعددهما المخصوص، لكن حتى لو فاتك وقتهما لا تُسقِطهما بل تداركهما والتزم بهما ولو بعد أوانهما من باب الانضباط وعدم التهاون.
الذكر المفتوح: ما ترتبه لنفسك من دعوات وتسبيحات بأعداد معينة، تُلزِم نفسك بها في يومك ككل لكنها بذاتها ليست مشروطة بوقت ولا حال ولا عدد، بل يمكن أن تؤديها في أقرب فرصة تناسبك بالقدر الذي تختار لنفسك، ولو تغير موعدها أو عددها يوميًّا، وذلك كقول: «لا الله إلا الله الملك الحق المبين» عشر مرات أو مائة أو بين ذلك أو فوق ذلك.
– اجلس له مجلسًا مخصوصًا بهيئة مستريحة غير مستعجلة على النهوض، لكنها كذلك منضبطة لا تدعو للنوم والغفوة أثناءه، كهيئة التربيع أو الجلوس المستقيم أو حتى التمشي الخفيف أثناءه.
– أغلق هاتفك وما شابهه إذا كان قريبًا منك حتى لا تسوّل لك نفسك النظر فيه بأي حجة، أو تتركه في وضع صامت بعيد عنك تمامًا في غرفة أو مكان آخر غير مكان ذِكرك.
– انقطع تمامًا لتذكر ربك وقت تحريك لسانك بذكره تعالى، فتعدّ التسبيحات والأذكار على أصابع يديك أو المسبحة ناظرًا فيهما لا سارحًا فيما حولك أو سابحًا في خيالك، بل مركّزًا في معنى ما تقول ومستحضرًا ثوابه، (تعلّم معاني ألفاظ وفضل ثواب ما لا تعلم من الأذكار التي ترددها).
– أسْمِع نفسك ما تقوله كما تُسِرّ في الصلاة، ولا تكتفِ بتحريك شفتيك دون صوت، وثواب النطق بالذكر والتلاوة غير الاكتفاء بالنظر في المصحف أو الترديد القلبي دون صوت.
– اجعل لك قدرًا من التسبيح والتهليل والحمد وغير ذلك من الذكر، خلاف ما جاء في دعوات وأذكار الصباح والمساء المسنونة، ولو كان عشرة عشرة حتى تبلغ المائة فما فوق.
– واجعل لك في كل ذكر، بل وكل طاعة، حدًّا أدنى لا تنقطع عنه مهما يكن من حالك، وحدًّا أعلى أو مفتوحًا بحسب الطاقة، وبهذا تجمع بين الحسنيين؛ استثمار طاقتك وقت حضورها والاستزادة حال الاستطاعة والرخاء والعافية رصيدًا تسحب منه في الشدّة والضيق والعجز، والمحافظة على سُنة نبينا ومرضاة ربنا بالمداومة على العمل، وقد «كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا عمِل عمَلًا أثبَته» (رواه مسلم).
– ومما ينبغي أن يعزم عليه كل فرد مسلم، ويتفق عليه أهل كل بيت مسلم، وحضور كل مجموعة مسلمة، أن يُوقفوا أيّ شاغل يشغلهم فور سماع الأذان، ما أمكن، لا من باب اتباع سُنّة الترديد وراء المؤذن فحسب، بل توقيرًا لذكر الله تعالى وندائه للعباد، وتصديقًا لما آمَنَ به كل مسلم بالله من أنّ «الله أكبر» من كل ما يشغلك ويهمّك، ومن ترجوه وتخافه.
وثق بأنك ستندهش من قصر الزمن الذي يستغرقه إتمام ورد الذكر عندما تركز فيه، وعظم الفائدة الإيمانية التي تعود عليك من التأدب في حضرته، وسيدهشك أكثر استشعار مدى الغفلة التي كنت غارقًا فيها وقد كنت تحسب أنك يقظان!