أم موسى الْلَخْمِيَّة، زوج نصير الْلَخْمِي(1)، وأم الأمير المشهور موسى بن نصير.
أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وقد بلغت مبلغ الفتيات، في سطور ثلاثة وكفى تحدث عنها التاريخ ثم سكت، ولكنه أوردها سطوراً حافلة ومميزة، حيث ينضوي(2) خلف كلماتها خبر لا شك أنه كان حديث الناس وقت حدوثه، وما تطالعه عين على صفحات التاريخ إلَّا ويعقبه في الذهن خاطر يساوره، ويملأه بمعنى أحقيته للذكر عن جداره، فلنذكره بتروٍّ.
في السنة الخامسة عشرة من الهجرة الشريفة، فُتِح الأردن كله، وفيه كانت معركة «اليرموك» كواحدة من أرهب معارك التاريخ وأشدّها ضراوة، إذ إنَّ الروم كانوا قد حشدوا كل قواهم العسكرية من عدد وعدَّة، مجمعين عزائمهم على لقاء لا تقوم للعرب من بعده قائمة ومن ثمَّ إلقاء دينهم الجديد تحت طبقات النسيان الثخينة(3)، فخرجوا في 300 ألف مقاتل بقيادة تذارق، شقيق ملكهم هرقل، وبينما غطُّوا الأرض بكثرتهم، كان المسلمون في 40 ألفـًا، ولكن حسبهم للنصر سببان؛ الأول: شعارهم (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، والثاني: قائدهم خالد بن الوليد رضي الله عنه، ترى هل يتجرع جيش حاز هذين السببين مرارة الهزيمة؟!
وكانت أم موسى اللخميَّة قد خرجت برفقة زوجها نصير اللخميّ رضي الله عنهما، وضوى(4) نصير إلى الرجال، وانضمت هي إلى النساء، وطفقت تتطلع إلى الصفوف المتراصَّـة في تحفز، وزأرت الحرب، وضرى(5) لهيبها، وبينما هي تترقب أحداث المعركة في قلق، واختلاط، واضطراب، وتترصد شوارد أخبارها في خفَّة وعلى عجل، أبصرت علجاً(6) يجر رجلاً من المسلمين، وقد بدا المسلم مهزوماً، وأوشك العلج على قتله، أتاها المشهد مزلزلاً مدوياً، حدقت إليه مغيظة حانقة لكأن جيش المسلمين يُهزم كله في هذا الرجل.
أسرع فؤادها في دقاته غضباً وحميّة، وما استطاعت طبيعتها الشجاعة المُكْث في عباءة السلبية منتظرة ما ينفرج عنه الأمر، فنزعت نفسها من أنوثتها الموفورة، وتسربلت(7) بعباءة المقاتل الكميّ، وشمرت عاجلة عن ساعديها، وتناولت عمود الفسطاط، وانطلقت صوب المشهد كالقذيفة ووضعت له نهاية، فشدخت(8) رأس العلج بعمود الفسطاط، فارتطم بالأرض من فوره يعالج أنفاسه الأخيرة بينما وقفت هي تتنفس في راحة.
وعملاً بالمبدأ الذي قررته الحكمة العسكرية النبوية: «من قتل كافراً فله سَلَبهُ»(9)، عمدت السيدة الكميَّة إلى سَلَبِ(10) العلج لتغنمه، وبنظرات ملؤها الشكر والامتنان يتطلع إليها الجندي المسلم ثم ينتفض ويساعدها في سلب الرومي المصروع ويدفعه إليها.
نصر المسلمون الله فنصرهم عز وجل وثبت أقدامهم، ورسم خالد بن الوليد لوحة عزيزة ونادرة لعبقرية القيادة، ورسم جنده لوحة مشرقة وباهرة لبراعة القتال، وقتلوا نحو 150 ألف رومي، وزفَّت الملائكة منهم 3 آلاف إلى فراديس الشهداء.
وهنا يطلُّ علينا سؤال باسماً من بين الأحداث، يزفر في راحة وهو يعلن عن نفسه: كيف تنتصر القلَّة على الكثرة بشكل يبهر الألباب على ساحة اليرموك؟!
ونَـردُّ سؤالاً بسؤالٍ: ألا يُـقـال الحق ما شهدت به الأعداء؟
إذاً، لنسمع الإجابة عن كيفية هذا النصر الغريب والعجيب التي تنتظمها شهادة جاءت على لسان أمير رومي قال لهرقل: نحن أكثر منهم عدداً وعدَّة، ولكن لا نقدر عليهم لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، أمَّا نحن فنشرب الخمر، ونزني، ونظلم، وننهى عمَّـا يُرْضي الله، فقال هرقل: صدقت(11).
بكلمة واحدة «صدقت» أجاز هرقل أسباب النصر والهزيمة في كل زمان ومكان!
وعلى حروف إجابته الواجزة والناجزة يتلألأ تفسير الكلمات الربانية الخالدة: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 10).
وما يسكت هذا السؤال قانعاً بالإجابة، مقتنعاً بمعنى الآية الكريمة غاية مطاف الاقتناع إلَّا ويعقبه سؤال آخر: كيف ترى الدنيا رجالاً جاؤوا من أرحام أم موسى اللخميَّة ونظائرها؟
ويجيب التاريخ الأمين: تراهم فحسب من طراز ولدها موسى بن نصير الأمير المشهور(12)، والقائد العسكري الفذُّ، الذي أدى دوراً بارزاً في انتشار الإسلام، وتوسيع رقعة الدولة الأموية، شارك في فتح قبرص بعهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ثم أصبح والياً على أفريقيا من قبل الوليد بن عبدالملك، واستطاع ببراعته العسكرية أن يُنهي نزعات البربر المتوالية للخروج على حكم الأمويين، وقام بفتح الأندلس، وفتح شبه الجزيرة الأيبيرية، وأسقط مملكة القوط الغربية التي تعرف الآن بجنوب غرب فرنسا، الأمير الذي تسامعت الدنيا بأخباره التي أشرق ضياؤها من وصايا أمه التي أرضعته إياها مع حليبها، وخبرها الذي أورده التاريخ في سطور ثلاثة وكفى.
لكنه أوردها سطوراً حافلة ومثيرة، تجتر أم موسى منها السعادة كلما أعوزتها السعادة، ويجتر غيرها منها بطولة نادرة، حتى أن عبدالعزيز بن مروان كان يستحكيها ذلك فتصفه له، قائلة: بينما نحن في جماعة من النساء -يوم «اليرموك»- إذ جال الرجال جولة، فأبصرت علجاً يجر رجلاً من المسلمين، فأخذت عمود الفسطاط ثم دنوت منه فشدخت رأسه، وأقبلت أسلبه، فأعانني الرجل على أخذه(13).
_________________________
(1) هو نصير بن عبدالرحمن بن زيد اللخميّ نسبة لقبيلة لخم، كان على حرس معاوية بن أبي سفيان، وقيل: على شرطة معاوية عندما كان والياً على الشام في خلافة عمر، وعثمان، رضي الله عنهم جميعاً.
(2) ينضم خلفها.
(3) السمينة، والصلبة الغليظة.
(4) مال وانضم.
(5) اشتدَّ.
(6) الرجل الغليظ الشديد من كفار العجم، وكل صلب وشديد من الرجال يسمَّى علج.
(7) ارتدت، والكميّ: الشجاع.
(8) شقت.
(9) حديث صحيح: أخرجه البخاري (3/ 114)، ومسلم (1751)، وأبو داود (2718).
(10) الغنيمة.
(11) انظر: البداية والنهاية، وقعة «اليرموك»، ذكرها ابن كثير رحمه الله في أحداث سنة 15هـ.
(12) الأمير موسى بن نصير: أبو عبد الرحمن موسى بن نصير (19 – 97ه/ 640 – 716م).
(13) البداية والنهاية، أحداث العامين 13، 15هـ، الإصابة (12279).