يتخذ البعض من التفكير باباً يدخل منه إلى احتقار الناس أو التطاول عليهم بإصدار الأحكام غير السليمة، كما يدخل بعض الناس من باب التفكير إلى الطعن في الدين أو اتهامه بالقصور عن الاحتياجات المعاصرة للناس.
وإن الناظر في أحوال هؤلاء الطاعنين يجد أنهم وصلوا إلى ذلك بسبب الخطأ في المعلومات أو قصور التفكير أو انحيازه في اتجاه معين أو الغفلة عن مقاصد الأمور ومآلاتها.
ولكي يصبح التفكير سليماً لا بد أن يشتمل على الخطوات اللازمة لصحة المعلومات وسلامتها، والشمول في الرؤية، والاعتدال في المعالجة، والانتباه للعواقب والمآلات، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: صحة المعلومات وسلامتها:
إن التفكير السليم لا يمكن أن يقوم على معلومات مغلوطة، أو جهل بالمعلومات اللازمة لتحقيق التفكير، إذ الخطأ في المعلومة أو عدم إدراك سلامتها يعد مانعاً من موانع التفكير فيها، وقد بيّن الله تعالى ذلك في قوله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36).
وقد يؤدي الاعتماد على المعلومات المغلوطة إلى وضع الأمور في غير الموضع السليم، فقد نحكم باعتدال البعض أو انحرافه، أو استجابته أو إنكاره، أو محبته أو كراهيته، دون أن يكون لهذا الحكم رصيد من الواقع السليم؛ مما يؤدي إلى التصرف غير السليم.
ولهذا أمر القرآن الكريم بالتثبت من المعلومات قبل أخذ القرارات، حيث قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6)؛ نَزَلَتْ هذه الآية فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ مُصَدِّقًا وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْقَوْمُ بِهِ تَلَقَّوْهُ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ فَحَدَّثَهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ فَهَابَهُمْ، فَرَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ مَنَعُوا صَدَقَاتِهِمْ وَأَرَادُوا قَتْلِي، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَمَّ أَنْ يَغْزُوَهُمْ، فَبَلَغَ الْقَوْمَ رُجُوعُهُ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: سَمِعْنَا بِرَسُولِكَ، فَخَرَجْنَا نَتَلَقَّاهُ وَنُكْرِمُهُ وَنُؤَدِّي إِلَيْهِ مَا قَبِلْنَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَدَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَخَشِينَا أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا رَدَّهُ مِنَ الطَّرِيقِ كِتَابٌ جَاءَهُ مِنْكَ بِغَضَبٍ غَضِبْتَهُ عَلَيْنَا، وَإِنَّا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ(1).
وأكدت السُّنة النبوية عدم الاعتماد في التفكير على ما هو غير ثابت من المعلومات، فلا نقول زعم البعض كذا أو كذا، ثم نأخذ القرار بناء على هذا الزعم، فقد روى أبو داود عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بئسَ مطيَّةُ الرَّجلِ زعموا».
ثانياً: الشمول في الرؤية:
لا يستقيم التفكير في أمر إلا إذا توافرت المعلومات اللازمة له من جميع الجوانب، حيث يؤدي القصور في جمع المعلومات أو الرؤية للأحداث إلى إغفال العديد من الزوايا التي تخدم الموضوع وتجعل التفكير فيه منضبطاً.
فإذا توافرت المعلومات الشاملة فإن النظر فيها يحتاج إلى شمول في استعمال الأدوات الكافية لتحقيق التفكير السليم، حيث لا ينبغي التسرع في إصدار قرار دون التدبر والتأمل والاستنتاج.
بل إن القرآن الكريم ينتقد الذين يقفزون عند السماع الأوليّ للمشكلة إلى إصدار الأحكام وإشاعتها، دون السماح لها بالمرور بمنطقة السماع الداخلي، الذي يشترك مع القدرات العقلية، ويتبادل معها التحليل والتأليف والاستنتاج.
ويصف القرآن الكريم هذا الأسلوب المتسرع بأنه تلقٍّ للمعلومات الأولية باللسان، دون الصبر عليها حتى تمر بالأذن، وتصل إلى منطقة الوعي.
ويتهدد القرآن الفاعلين لذلك بالعقوبة الإلهية؛ لما يترتب على هذا الأسلوب من أخطاء في الحكم، وعدوان على الأبرياء؛ قال تعالى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ {15} وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (النور)(2).
ثالثاً: الاعتدال في المعالجة:
لا ينبغي أن ينطلق المفكر في البحث عن أمر أو الحكم على شيء وهو متأثر بالمحبة أو الكراهية لهذا الأمر، أو الشعور بالميل أو الرفض له، إذ يؤثر هذا الانحياز في عملية التفكير.
إن هذه الطريقة المعوجة في التفكير قد اعتمدت عليها الفرق المنحرفة قديماً وحديثاً، وهي تقرير النتيجة أولاً، أو الانطلاق من نتيجة ثابتة في الذهن، ثم البحث عن أدلة داعمة لها، فهذا الانحياز يعد طريقة معوجة غير مستقيمة، حيث يؤدي إلى ليّ أعناق النصوص من أجل خدمة الهدف الذي يسعى إليه، أو اجتزاء بعض النصوص وإخراجها عن سياقها، بسبب الحرص على الوصول إلى الهدف الذي استنتجه مبكراً.
والصواب أن ينطلق الباحث من رؤية حيادية لا تميل إلى جانب على حساب الآخر، ثم يجمع الأدلة ويدقق النظر فيها، ويحسب لها حساباتها من حيث المنافع والأضرار، ليصل إلى القول السديد والحكم الرشيد.
رابعاً: الانتباه للعواقب والمآلات:
قال ابن الجوزي: إن النظر في العواقب، وفيما يجوز أن يقع، شأن العقلاء، أما النظر في الحالة الراهنة فحسب، فحالة الجهلة الحمقى، مثل أن يرى نفسه معافى، وينسى المرض، أو غنيًّا، وينسى الفقر، أو يرى لذةً عاجلة، وينسى ما تجني عواقبها، فليس للعقل شغل إلا النظر في العواقب(3).
ففي هذا تأكيد على أن أحادية الرؤية لا تكفي لتكوين الرأي السليم، إذ النظر في العاجل دون الآجل، أو في المصلحة دون المفسدة، أو الأفعال دون النتيجة المترتبة عليها يعد قصوراً في التفكير.
والصواب في ذلك ألا يقتصر المفكر على الحاضر من التصورات، بل يحرص على التفكير في المقاصد والغايات، ومن الأمثلة الواقعية في ذلك ما يقوم به المسلم من التعبد لله تعالى طلباً لرضاه والفوز بجنته، إن هذه العبادة قد تحرم صاحبها من بعض الملذات العاجلة، لكنه يترك تلك الملذات لأنه ينظر في عواقبها وينتبه إلى مآلاتها، ويعتقد أن من ترك شيئاً لله أبدله الله خيراً منه.
بل إنه يدرك أن دخول الجنة يلزمه الصبر على بعض المكاره، وأن التمسك بالشهوات سبيل إلى النار، ففي صحيح ابن حبان عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حُفَّتِ الجنَّةُ بالمكارِهِ وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ».
فالمسلم مع هذا الإدراك والشعور باللذة عند المعصية نجد أنه يتركها؛ لأن النظر في عواقب الأمور يدعوه إلى ذلك، وفي المقابل نجد أنه يصبر على المكاره، لأن النظر في العواقب يدعوه إلى ذلك.
______________________
(1) أسباب النزول: الواحدي، ص 390.
(2) مقومات الشخصية المسلمة: د. ماجد عرسان الكيلاني، ص 55-56.
(3) صيد الخاطر: ابن الجوزي، ص 438.