المجتمع الإسلامي هو مجتمع الحب والمودة والتكامل والتكافل منذ وضع أساس الدولة المسلمة في المدينة بعد الهجرة المباركة، وكان القانون الأول فيها هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، لتنفتح على الفور بيوت الأنصار تستقبل المهاجرين كأخوة حقيقيين، لهم كافة حقوق الأخوة، وتخلص المؤمنون من كافة معاني الأثرة والأنانية داخل نفوسهم لتتحول لإيثار، والعطاء الكريم بدلاً من الأنانية المقيتة.
فمن أين نشأت تلك الأمراض الخطيرة التي لوثت المجتمع الإسلامي؟ ومن أين أتت وكيف انتشرت لتمثل ظواهر مخيفة تهدد المجتمع بالكراهية والتفكك؟
إن من أخطر الأمراض القلبية التي يمكن أن تصيب إنساناً أو مجتمعاً هو داء الأثرة والأنانية الذي يدمر القلب ويحطم معه القيم المجتمعية.
الأثرة والأنانية في ميزان الشرع
ومثل كافة الأخلاق السلبية، يحذر الله عز وجل عباده بضرب المثل لتقريب المفهوم وتوضيح الصورة كي لا يقع فيها المسلم بجهالة، يقول تعالى: (إنا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) (القلم: 17)، وظاهر النص أن خطيئتهم التي أخذوا بها هي التصميم على صرم جنتهم خفية، والاستئثار بكل خيرها، لا يؤدون حق مسكين فيه(1).
وقال تعالى: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) (القمر28)؛ فنهاهم الله عن أن يستأثر أهل اليوم الذي لا ترد الناقة فيه بيومهم، وأمرهم بالتواسي مع الذين ترد الناقة في يومهم(2)، وقال تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 188)؛ والخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا: الغش، والخداع، والكذب، وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، وغيرها من صور الأثرة(3).
وعن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أثرة وأمور تنكرونها»، قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم» (أخرجه البخاري ومسلم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: «إنكم سترون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الحوض» (رواه البخاري، ومسلم).
وعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثـرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم. (رواه البخاري، ومسلم)، وقد أثنى الله على المؤمنين بقوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر: 10).
الآثار السلبية على الفرد والمجتمع
للأثرة والأنانية آثار سلبية جمة على مستوى الفرد بشكل مباشر، وعلى المجتمع المسلم وطبيعته، ومن هذه الآثار:
الأنانية بحيث لا يحب الخير لغيره، فهو بذلك يخرج عن دائرة الأخلاق والقيم الإسلامية، فهو يصد عن الخير، وعن الحق، ويبحث عن مصالحه الشخصية بغض الطرف عن الحلال والحرام والأوامر الإلهية والنبوية.
وفي ذلك يقول ابن عباس: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته. (أخرجه البخاري، ومسلم)، فمسيلمة لا يعنيه الحق، ولا يعنيه إلا مصالحه في وراثة النبوة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو بالباطل، فإثر الأنانية على الفرد أن يخرج من دائرة الحق لدائرة الباطل.
ومن آثارها على المجتمع، أن تسود بالمجتمع أخلاق الكراهية والظلم وأكل الحقوق بين الناس، وذهاب الحق وضياع المظالم، وتنتشر الأحقاد، ويضيع الفقير نظراً لانتفاء خلق التكافل المجتمعي، هذا غير قطع الأرحام والتنافس على الدنيا، ثم تضعف على إثر ذلك الأخوة الإيمانية التي تنبني على قيم الحب والتعاطف والعطاء وحب الغير.
القلق والاكتئاب وعلاقتهما بالأنانية(5)
يحسب البعض أن مرض الأثرة مجرد مرض قلبي يؤثر في العلاقات الاجتماعية بين المسلم وإخوانه، لكن الحقيقة أن تأثير ذلك المرض الخطير يمتد للنفس المسلمة، فيحول الاطمئنان لقلق، والسعادة لاكتئاب عميق.
يقول د. مايكل ماكجي: ما الذي تفكر فيه طوال اليوم؟ إذا كان الأمر يتعلق بك في الغالب، فقد تعاني من الأنانية، يعتبر الناس الأنانية سمة سلبية في الشخصية، إذا كنت أنانيًا، فإن أول ما يجب عليك فعله هو عدم توبيخ نفسك بسبب ذلك، إذا فعلت ذلك، فإن خجلك سيمنحك سببًا آخر للانشغال السلبي بالذات، بدلاً من ذلك، انظر إلى أنانيتك باعتبارها أحد أعراض القلق الكامن.
غالبًا ما يشعر الأشخاص الأنانيون بالتهديد والضعف وانعدام الأمان مع الآخرين، ويعاني الأشخاص الأنانيون النرجسيون من إدمان على تميزهم، لديهم انعدام أمان كامن يتعلق بعدم القدرة على الحب والمحبة بأمان.
من هنا نخلص إلى أن الأنانية والأثرة يمتد أثرهما للمرض النفسي والحياة غير المستقرة.
علاجها
يتعلق الأمر دوماً بالله عز وجل، ويعتمد على دعائه لقدرته سبحانه وحده على تغيير القلوب، ففي كل خطوة نحو علاج هذا المرض يجب أن يكون باستعانة بالله ودعاء لا ينقطع، والخطوة الأولى في العلاج هي التربية الحسنة، والرفق في العقاب كي لا تنشأ نفس مريضة تجاه الآخرين كارهة لهم، والعدل بين الأبناء.
فعن النعمان بن بشير، قال: سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله، ثم بدا له، فوهبها لي، فقالت: لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي وأنا غلام، فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا، قال: «ألك ولد سواه؟»، قال: نعم، قال: «فأراه»، قال: «لا تشهدني على جور»، في رواية: «لا أشهد على جور) (رواه البخاري ومسلم)، ويدخل في هذا الإطار تربية الطفل على العطاء من طعامه لمن لا يملك طعام، ومشاركة ألعابه مع الآخرين دون أن ينهرهم.
التربية بالقدوة؛ قال عمرو بن عبسة: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: «ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم» (أخرجه أبو داود).
تذكر تبعات الأثرة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «أتدرون من المفلس؟»، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار» (أخرجه مسلم).
________________________
(1) التفسير البياني للقرآن الكريم لبنت الشاطئ (2/ 63).
(2) المحرر الوجيز لابن عطية (5/ 218).
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 338).
(4) د. مايكل ماكجي، أستاذ الصحة الجنسية بجامعة مونكلير ستايت في ولاية نيوجيرسي الأمريكية.