لا تكاد تخلو المجادلات والحوارات بين الناس من إدخال موضوعات جانبية بعيدة عن موضوع الحوار، لا سيما عند الكراهية واحتدام الخلاف، وتأتي هذه الموضوعات الغريبة عن الموضوع الأصلي لتفسد الحوار أو تستدعي الانتصار الموهوم، ويعد هذا خروجاً عن الموضوعية.
والموضوعية تعني عدم الخروج عن الموضوع الذي هو محل النزاع أو الخلاف، فإن آفة كثير من الناس إذا ناقشوا غيرهم في موضوع معين، تعمدوا أن يسلكوا ما يسمى في هذه الأيام بخلط الأوراق، أو التشويش على المخالف، بإدخال موضوعات أخرى، بحيث لا يدري العقلاء في أي شيء هم مختلفون مع غيرهم، وتضيع الحقيقة في خضم هذه الفروع، التي لا تكاد تعرف لها أصلاً.
والناظر في القرآن الكريم يجد أن كثيراً من المجادلات والمحاولات والخلافات التي دارت بين الرسل عليهم الصلاة والسلام وأقوامهم يجد أن جوابهم على مخالفيهم جاء منتزعاً من أقوال المخالفين، دون أي خروج عن موضوع الخلاف، ومن ذلك ما يأتي:
1- الاختلاف بين سيدنا نوح وقومه:
لقد قصّ القرآن الكريم ما دار بين سيدنا نوح عليه السلام وقومه، حيث قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {59} قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ {60} قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف)، والناظر في سياق الآيات يجد أن القوم قالوا: «إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ»، فجاء الرد: «لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ»، فجاء الجواب في نفس الموضوع، بنفس الألفاظ تقريباً.
2- الاختلاف بين سيدنا هود وقومه:
لم يخرج سيدنا هود عليه السلام عن الموضوعية عندما اختلف مع قومه، حيث قال تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ {65} قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ {66} قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف)؛ ففي الآيات إبراز للتهمة التي ساقها القوم لنبيهم، ورده عليهم بنفي التهمة عن نفسه دون أن يقحم موضوعات أخرى في الخلاف القائم بينهم.
3- الاختلاف بين سيدنا موسى وفرعون:
لقد توجه فرعون إلى موسى بأسئلة متعددة، كان يهدف من خلاله إلى إحراجه وصد الناس عنه وعن دعوته، ومع ذلك لم يخرج سيدنا موسى عليه السلام عن إطار الموضوعية، فأجاب عن الأسئلة الموجهة بانتزاع بعض ألفاظها، حتى يكون الالتزام بالموضوعية جلياً في أبهى صوره، ومن ذلك قوله تعالى: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ {18} وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ {19} قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ {20} فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ {21} وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ {22} قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ {23} قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ) (الشعراء)؛ فهذه مجموعة من الأسئلة الفرعونية المغرضة، وجاء الجواب عليها واضحاً دون خجل أو تردد أو تشويش.
4- الاختلاف بين سيدنا محمد وقومه:
لقد أثار المشركون عدداً من الشبهات في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم، وقصّ القرآن الكريم جوانب متعددة منها، وأوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج عن الموضوعية في الجواب، ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {28} قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (الأعراف).
وقال تعالى: (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {80} بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة)، وقال عز وجل: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (سبأ: 3)، وقال أيضاً: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة: 81)؛ ففي هذه المواقف المتنوعة تأكيد على أن إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم على ما أثاره المشركون كان منتزعاً من كلامهم، وملتزماً بموضوع الخلاف دون التجاوز إلى غيره.
5- معجزات الأنبياء تؤكد الالتزام بالموضوعية عند الاختلاف:
جعل الله تعالى لكل رسول من المرسلين معجزات من جنس ما برَع فيه قومه، غير أنها تفوق ما برع فيه القوم، بحيث إنهم يَعجزون عجزًا تامًّا عن الإتيان بمثلها، مهما حاولوا، فكانت معجزة موسى عليه السلام مناسبة لما غلب على قومه وبرعوا فيه؛ وهو السحر، فأبطل الله سحرهم، بما أجرى على يديه، كما قال تعالى: (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف: 118)، وعجزوا عن معارضته مع خبرتهم وتفننهم في أنواع السحر.
وكان قوم سيدنا عيسى عليه السلام ممن برعوا في فنون الطب والتداوي، فشفى الله تعالى على يديه ما استعصى عليهم من الأمراض، حتى أحيا الله على يديه الموتى.
وأرسل الله سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم في قوم برعوا في الفصاحة والبيان، فأيده بمعجزة القرآن، وتحداهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة قصيرة من مثله، فعجزوا.