إن أهم ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات أنه مخلوق ناطق متكلم مفكر، وفي معرض تذكير الإنسان بفضل الله ومنَّته عليه قال تعالى: (الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ {2} خَلَقَ الْإِنسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن)؛ فـ(عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)؛ أي: علمه اللغات نطقًا وكتابةً، التي يكون بها الفهم والإفهام، حتى عرف ما يقول وما يقال له(1).
وهذا ما حدا بأرسطو الفيلسوف أن يعرِّف الإنسان بأنه: حيوان ناطق، التي تعني: أن الإنسان كائن حي ناطق.
والإنسان هذا الكائن العجيب عدد اللغات التي يتكلم بها قاربت 7 آلاف لغة، لكن الواسع الانتشار منها يربو فوق العشر بقليل، التي يتكلم بها أكثر من نصف البشرية.
ومن بين تلك اللغات اختار الله لغات نزلت بها الكتب السماوية، التي بلغت -وفق ما روي عن الحسن البصري- 104 كتب(2)، وما نعلمه من تلك الكتب قليل مثل: صحف شيث وأخنوخ وإبراهيم، والتوراة والزبور والإنجيل.
قال تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) (آل عمران: 3)، وقال: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) (النساء: 163)، وقال: (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (الأعلى: 19).
ولم تَبق الكتب والصحف والألواح على اللغة التي نزلت بها؛ إذ تمت ترجمة التوراة وفيه المزامير والإنجيل إلى لغات العالم، فكأن الآرامية أو العبرانية أو السريانية لا قداسة لها، ولم تبق الأصل المرجوع إليها في التراجم، وذلك على عكس اللغة العربية التي كان حظها من أعظم الحظوظ بين لغات العالم؛ إذ أنزل الله تعالى بها كتابه الخاتم وهو القرآن الكريم، فأضفى عليها القداسة، وأبقى نصَّ اللغة العربية على حالته كما هو من وقت نزوله وحتى قيام الساعة، وإنما كانت الترجمات للشروح والتفسيرات والتأويلات.
وبتلك اللغة العربية تحدى الله العرب والعجم، فأصبحت لغة معجزة، ومن إعجازها أن يحفظ العجمي القرآن الكريم لا يتفلَّت منه حرف واحد، وهو لا يعرف التكلم والتحدث بتلك اللغة تصديقًا لقوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر: 17).
وقد كانت اللغة العربية من أسرة اللغات السامية التي تضم بجوارها الكنعانية والآرامية والفينيقية والكلدانية والعبرية والحميرية والأمهرية.. إلخ، وهذه اللغة كانت حبيسة الحدود الجغرافية لشبه الجزيرة العربية وبلاد العراق والشام ولم تتجاوزها إلى غيرها من البلدان.
ورغم عدم انتشارها آنذاك، فإنها كانت لغة لم يقف لها العلماء على مرحلة طفولة لغوية، بل كانت لغة ناضجة مبهرة في أصواتها وتراكيبها وصورها، وكان بلغ اعتناء العرب بها الغاية فأنشؤوا أسواقًا للكلام يتبارون فيها أيهم أفصح قولاً وأجمل تعبيرًا وأفضل صورة.
فقد كانت تضرب لنابغة بني ذبيان قبة من أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء، فدخل إليه حسان بن ثابت وعنده الأعشى وقد أنشده شعره وأنشدته الخنساء.
فقال: لولا أن أبا بصير أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس، أنت والله أشعر من كل ذات مثانة.
قالت: والله ومن كل ذي خصيتين.
فقال حسان: أنا والله أشعر منكَ ومنها.
قال: حيث تقول ماذا؟
قال: حيث أقول:
لنا الجَفَناتُ الغُرّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نَجْدةٍ دَمَا
ولَدْنا بني العَنْقاءِ وابنَيْ مُحَرِّقٍ فأَكْرِمْ بنا خالاً وأَكْرِمْ بنا ابنَمَا
فقال: إنك قلت: «الجفنات»، فقللت العدد، ولو قلت: «الجفان» لكان أكثر، وقلت: «يلمعن في الضحى»، ولو قلت: «يبرقن بالدجى» لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت: «يقطرن من نجدة دماً»، فدللت على قلة القتل، ولو قلت: «يجرين» لكان أكثر؛ لانصباب الدم، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك، فقام حسان منكسرًا منقطعًا(3).
ثم لما اختار الله عز وجل هذه اللغة لتكون حاملة لآخر رسالاته خرج بها من كونها لغة قومية للعرب إلى أن تكون لغة عالمية حتى قيام الساعة، وأضحت اللغة العربية أكبر من القومية العربية، وأصبحت اللغة العربية لغة الإسلام، وفهم ذلك المسلمون الأوائل على اختلاف أعراقهم وأجناسهم وقومياتهم ومواطنهم؛ لذا وجدتَ كل عرقية مسلمة تعتز بعرقها وتفتخر به، ولا يقلل ذلك من حبها للغة العربية والكلام بها، فقد تكون أمازيغيًّا أو تركيًّا أو كرديًّا أو فارسيًّا أو أفغانيًّا أو سودانيًّا وتتحدث العربية.
والأعراق التي لم تستطع أن تتكلم باللغة العربية لم تقطع صلتها بتلك اللغة، بل استبدلت الحرف العربي بحروفها، وكتبت به لغتها، وأدخلت المفردات العربية بكثرة في لغاتها، وإلى اليوم ما زال الإيرانيون يكتبون لغتهم بالحرف العربي، وكذلك الأكراد والبشتون والباكستانيون.. إلخ.
ولم يشذ عن تلك القاعدة إلا كمال الدين أتاتورك الذي ألغى الحرف العربي الذي كانت تكتب به اللغة التركية العثمانية واستبدل الحرف اللاتيني به.
وقد فهم المستعمرون المستدمرون ذلك عندما احتلوا بلادنا الإسلامية؛ فحاولوا ضرب اللغة العربية، والطعن فيها، وزعزعة مكانتها في نفوس أبنائها، حتى وقع بعض أبنائها في ازدرائها والتقليل من شأنها.
واللغة ركن ركين من أركان الهوية لأي أمة أو شعب؛ فالعبث باللغة عمومًا هو عبث بالهوية، ومحاولة مسخها وطمسها وتبديلها، لكن تلك اللغة شأنها شأن الإسلام يحملان في طياتهما قوة ذاتية تمكنهما من التحرك بثبات بين الأمم، رغم الهجوم الشرس عليهما.
وإذا عجز بعض العرب عن النهوض بلغتهم وحمايتها؛ فإن بعض العجم يعمل على تعلمها؛ لأنه لا يفهم دينه إلا بها، فاللغة العربية لم تعد ملكًا للعرب وحدهم وحكرًا عليهم، بل هي ملك للمسلمين في أنحاء العالم أجمع، ولن تجد مبغضًا للعربية إلا وفي قلبه كره وبغض للدين في حد ذاته، وإن حاول إخفاء ذلك.
فاللغة العربية وعاء الإسلام، ولا يمكن فهمه إلا بها، ولا يمكن التعبُّد في الصلاة إلا بها، وهي القاسم المشترك بين المسلمين الذي يمكنهم التفاهم من خلاله، لكن ضعف الدين في القلوب أدى إلى ضعف الاهتمام باللغة العربية، حتى بلغت الحال ببعض المسلمين أن يتواصلوا فيما بينهم بلغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية.
ورغم ذلك تبقى الحقيقة التي لا مرية فيها أن اللغة العربية خالدة بخلود الإسلام، باقية ببقائه، مقدسة بتقديسه، عزيزة بعزه.
_________________
(1) انظر: تفسير البغوي (7/438).
(2) سنن البيهقي الكبرى (9/188).
(3) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (9/ 383-384) باختصار.