مهما ارتفع سعر الطحين في العالم فمن المحال أن يقترب ولو بشيء يسير من ثمنه في غزة فحفنة الطحين لديها تقابلها أرواح.
المسن حمد الذي كان يسكن جنوب قطاع غزة حيث مدينة رفح الصامدة الصابرة اضطر للنزوح القسري إلى مكان آخر تجردت فيها أدنى مقومات الحياة لشهور فلا طعام يؤكل ولا ماء يروي.
وإن توفر القليل من الطعام فالأسعار غالية جدا تجعل من المحال على الإنسان الغزي مجرد التفكير بالشراء فالأشياء ارتفعت أسعارها أضعاف كثيرة يصعب تقبلها على العقل الجائع الفقير.
حفنة طحين
بكاء الأبناء والأحفاد والجوع الذي كان يمزق أمعائهم جعل المسن حمد لا يفكر إلا في وسيلة واحدة من أجل إحضار كيس من الطحين أو حتى حفنة منه أو أي شيء يسكت وجعه وهو ينظر إلى فلذات أكباده وأطفالهم يتضورون جوعا انهك أجسادهم وأنزل أوزانهم كثيرا.
كان يعلم مسبقا خطر الخطوة التي سيقدم عليها فالأمر سيكون مقابله روحه، ورغم ذلك إلا أنه لم يفكر في نجاة نفسه بقدر ما صب تفكيره في العودة إلى بيته حيث الركام الذي اعتلى فوق كيس طحين كان قد أحضره سابقا ولم يستطع أخذه معه في نزوحه الأخير.
اختلط الدم بالطحين
بالفعل نجح في الحصول عليه لكنه لم يفلح بإكمال خطواته بالعودة إلى أحفاده الصغار فقد كانت صواريخ الاحتلال له بالمرصاد فاختلط دمه الأحمر الطاهر بالطحين الأبيض.
لم يكن وحده ليدفع هذا الثمن الباهظ فقد فعلها الكثير غيره رغم ادراكهم الخطر، ومنهم الشاب علاء الذي كانت تؤلمه أصوات بكاء أطفال إخوته من الجوع الشديد.
فكانت محاولته لإحضار كيس طحين ثمنها غالي جدا دفعه حينما رصدته طائرات الاحتلال وأصابته إصابة مباشرة ادت إلى ارتقائه.
تكافل لأجل الأيتام
والغريب أنه رغم شح الطحين وارتفاع سعره إلا أن ذلك لم يمنع سالم الذي وعد أطفاله بشراء بعض الكيلوات منه أن يقدمه تكافلا للأيتام.
لقد أخبار أطفاله وزوجته قبل الخروج من خيمته بأنه سيعود بشيء من الطحين الأمر الذي جعل الفرحة تعم بينهم وانتظار الشوق الكبير لذلك فالطحين يعني أنهم سيأكلون خبزا هذا اليوم.
وبالفعل لقد استطاع شراء رطلا منه، الأمر الذي جعل خطواته تسرع حتى يعود به لأطفاله، لكن في طريق العودة كانت امرأة برفقة أطفالها الأيتام الذين ارتسمت عليه ملامح الجوع بشكل واضح.
أخبرته بأن أيتامها لم يأكلوا منذ أيام إلا الشيء اليسير جدا فما كان منه بدون أدنى تردد أن يعطيها الطحين.
رجع مرة أخرى للبائع لعله يجد شيء لكن المفاجأة كانت أن الكمية نفدت، الأمر الذي أحزن قلبه أثناء طريق عودته لأطفاله الذين ينتظرون الطحين بلهفة كبيرة.
الذي كان يطمئن قلبه أن الله -تعالى- لن يضيعه حيث قدم قوت أطفاله للأيتام، وبالفعل كان العوض سريعا
فقد كان صديقه ينتظره بفارغ الصبر؛ ليخبره بأن الله -تعالى- رزقه كيس طحين وبمحرد حصوله عليه لم يخطر في ذهنه إلا صديقه سالم بأن يعيطه منه عشر كيلو جرام.
هذا الأمر أسعد سالم الذي ظهرت عليه ملامح الفرح مثل فرحة أطفاله حينما عاد إليهم وهو يحمل عشر كيلوات طحين بدل من ثلاثة.
تقاسم الرغيف
أما لمياء فكانت لا تقبل أن تأكل رغيف خبز إلا وتعطي الرغيف الأخر لغيرها حتى وإن كانت كل الذي تملكه رغيفين.
وإذا كان لديها طحين فلابد أن تقتسمه كذلك تكافلا مع غيرها، وكثير من الوقت تعطي كل ما تملك رغم قلته لغيرها فكانت تجد بركة في ذلك بأن يعوضها الله الرزاق خيرا مما أعطت عملا بقول النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ”.