دخل الإسلام الجزيرة في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي عن طريق الرحالة والتجار المسلمين
شهدت ساحة شبه جزيرة القرم صراعاً محتدماً أشبه بالحرب الباردة بين المعسكر الغربي التقليدي بقيادة الولايات المتحدة، ومعسكر الشرق المتمثل في روسيا، ومِنْ ورائها حلفاء كالصين، هنا وعبر هذا الجوار نلتقي مع الأستاذ «سيران عريفوف»، بكالوريوس دراسات إسلامية جامعة الجنان – لبنان، ورئيس الهيئة التشريعية في اتحاد المنظمات الاجتماعية «الرائد» في أوكرانيا، وعضو الإدارة الدينية لمسلمي القرم؛ لنتحدث عن مسلمي القرم وعن الأزمة الحالية، وفيما يلي نص الحوار.
< لو تبدأ لنا بنبذة تاريخية عن تاريخ المسلمين في القرم؟
– دخل الإسلام الجزيرة في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي عن طريق الرحالة والتجار المسلمين.
وتسمية «القرم» تسمية تترية تعني«القلعة»، وكانت تضم مناطق ما يسمى الآن شبه جزيرة القرم والأراضي المحيطة ببحر آزوف (يتبع روسيا اليوم) وشمال جزيرة القرم (في أوكرانيا اليوم)، أما تسمية التتار فهي تسمية لاحقة لا علاقة لها بالمغول التتار، يفسرها المؤرخ د. محمد صبحي عبدالحكيم بقوله: وقد أعطى الروس اسم التتار لمجموعة متنوعة من الشعوب المتحدثة بالتركية وبغيرها قبل وصول الإسلام بوقت طويل، وبعد وصول الإسلام مال الروس إلى تسمية كل المسلمين باسم التتار، أما اليوم فيطلق هذا الاسم على عدة شعوب مرتبطة ببعضها بعضاً، والتتار الحاليون لا يمكن اعتبارهم أحفاداً مباشرين للمغول التتار، الذين اكتسحوا معظم أوراسيا في القرن الثالث عشر، من العام 1441 – 1783م.
قامت على أراضي القرم مملكة قرمية تترية مسلمة توالى على حكمها خمسون خاناً، كان أشهرهم الحاج «كراي»، مؤسس المملكة، وكان معاصراً للسلطان «محمد الفاتح»، و«غازي كراي» الذي كان أديباً وشاعراً وقائداً عسكرياً اجتاح مناطق واسعة من روسيا، ودخل موسكو وأجبر أميرها على دفع الجزية، كانت عاصمتها مدينة بغجة سراي (بختشيسراي حالياً) مدينة عامرة بالمساجد (حوالي 32 مسجداً) والمدارس والقصور والدور والحمامات والحدائق والبساتين.
ترسيخ الإسلام
عام 1474م أصبحت مملكة القرم حليفاً للدولة العثمانية، ساعدتها في جميع حروبها ضد الروس والملدافيين، واستمر هذا الحلف إلى عام 1774م، عندما دخلت القرم تحت الوصاية الروسية.
كان لخانية القرم دور في ترسيخ الإسلام في هذه البلاد إلى يومنا هذا، وقد خرّجت العديد من العلماء والفقهاء والنحويين والقراء، الذين دونوا إنتاجهم العلمي باللغة العربية وأحياناً بالتركية العثمانية؛ ما أسهم في دفع مسيرة الحضارة الإسلامية، وقد تبوأ عدد من العلماء مناصب الإفتاء والإمامة في مساجد إسطنبول ومكة والمدينة وفلسطين، كما كانت هذه الخانية خط الدفاع الأول ضد الأطماع الروسية في الأراضي الإسلامية، التي كانت تحت السيادة العثمانية، وساندت الأخيرة في أكثر من مناسبة، وقد زار هذه المنطقة عدد من الرحالة المسلمين مثل: ابن بطوطة، وأبو عبيد البكري القرطبي، وأبو حامد الغرناطي، والرحالة التركي أوليا جلبي.
< وهل دعمت الدولة العثمانية تتار القرم؟
– بدأت معاناة تتار القرم نتيجة ضعف الدولة العثمانية والحروب الكثيرة مع الدولة الروسية، حيث تخلت الدولة العثمانية عن القرم، ووقعت اتفاقية عرفت بمعاهدة «كوجك قينارجه»، نصت على منح القرم استقلالاً ذاتياً عن الدولة العثمانية عام 1774م، ليبدأ الوجود الروسي لأول مرة في شبه الجزيرة، ولكن الروس بقيادة الإمبراطورة «يكاتيرينا الثانية» أخلوا بالاتفاقية، واحتلوا الجزيرة عام 1783م، وأحرقوا ودمروا عاصمتها والكثير من المعالم الحضارية الإسلامية فيها، وكان في القرم آنذاك نحو 21 ألف معلم إسلامي، بين مسجد ومدرسة وكتاب وغيرها تعرض معظمها للتهديم، ثم سرعان ما بدأت معاناة مسلمي القرم، من خلال حملات الاضطهاد المنظمة، التي دفعتهم إلى التشتت في دول آسيا الوسطى وسيبيريا وتركيا وبلغاريا ورومانيا، ومورست ضدهم شتى أنواع العنف والتمييز، إذ هدمت مساجدهم ومدارسهم وبيوتهم، وأحرقت مصاحفهم وكتبهم بهدف إفراغ القرم من أهله وإحلال الروس مكانهم.
حملة تشريد
بعد حرب القرم (1853 – 1856م) بين روسيا من جهة والدولة العثمانية وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى، عمدت الحكومة الروسية إلى طرد أعداد كبيرة من المسلمين التتار بحجة انحيازهم إلى الأعداء، وفي نهاية العشرينيات من القرن الماضي شن الشيوعيون حملة تطهير ضد المفكرين التتار، وتمّ قتل 3000 إمام، ونفي 40 ألف مسلم إلى سيبيريا، وعلى أثرها أُعدم رئيس الحكومة والمفتي التتري آنذاك «نعمان تشلبي جيهان»، أعنف هذه الحملات كان على يد «ستالين» في 18 مايو 1944م، عندما قام بتهجير جميع السكان التتار إلى آسيا الوسطى وسيبيريا (حوالي 300 ألف مسلم جلهم من الشيوخ والأطفال والنساء)، في عربات قطار مخصصة للحيوانات، وفي ظل برد قارس قضى على عشرات الآلاف منهم، في حين كان كثير من الشباب القرمي يخدم في الجيش الأحمر السوفييتي، وفي مختلف الوحدات والرتب والجبهات العسكرية، بعد ذلك تمّ تغيير 80% من أسماء المدن والقرى والبلدات القرمية إلى أسماء روسية، واستُجلب الروس والأوكرانيون من «العمال الكادحين» للعيش في القرم بدلاً من التتار الذين صودرت أراضيهم وممتلكاتهم بعيد التهجير.
ومع بداية انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م، بدأ التتار بالعودة التدريجية إلى القرم، ليجدوا بيوتهم قد سُكنت من قبل الروس، فسكن معظمهم في قرى السهول والجبال النائية الفقيرة التي تفتقر إلى البنية التحتية الأساسية.
< وماذا عن طبيعة منطقة القرم، وعدد سكانها، وتركيبتهم العرقية والدينية؟
– منطقة القرم 72% من أراضيها سهول خصبة، 20% منها جبال خضراء، و8% بحيرات عذبة، مساحتها حوالي 28 ألف كم مربع، نسبة المسلمين فيها 20%، والباقي مسيحيون وأقليات أخرى.
< ما نسبة وجود الناطقين بالروسية هناك؟
– يتحدث معظم شعب القرم بمختلف عرقياته اللغة الروسية حوالي 90%.
< يقال: إن في أوكرانيا أقلية ناطقة باليونانية.. هل هذا صحيح؟ وما عددهم؟
– نعم، توجد أقلية يونانية في القرم وأوكرانيا، وقد تعرضت للتهجير مع مسلمي تتار القرم عام 1944م.
< ما تركيبة المسلمين اليوم في القرم؟ وما عددهم؟
– يبلغ عدد سكان القرم 2.2 مليون نسمة، عدد المسلمين منهم حوالي 400 ألف نسمة، يتوزعون على كل مدن وقرى شبه الجزيرة وخارجها مثل مقاطعة خرسون شمال القرم وفي العاصمة كييف.
< ما المهن التي يعملون بها؟
– يحترف المسلمون جميع المهن، ولكن لا يُقلَّدون المناصب السياسية العليا ومناصب الجيش والأمن والقضاء، 60% من المسلمين فقراء.
< ما اللغة التي يتحدثون بها؟
– يتحدث المسلمون في القرم اللغات التالية: القرمية، الروسية، الأوكرانية.
< هل هم قومية واحدة أم هناك أكثر من قومية بينهم؟
– هم قومية واحدة من تتار القرم، وهم فرع من الشعوب التركية.
< ماذا عن مستواهم التعليمي؟
– مقارنة بالروس والأوكرانيين الذين يسكنون الجزيرة مستواهم جيد، ومايزال الوعي الديني والثقافي لدى المسلمين ضعيفاً، يحافظ ربع المسلمين تقريباً على الصلوات الخمس.
< هل لديكم مؤسسات لحفظ الذاكرة التاريخية، مثل متحف لتشريد المسلمين التتار؟
– يوجد عدة متاحف قرمية تهتم بشأن مسلمي تتار القرم، مثل متحف قصر السلطان في بخشسراي، ومتحف التقاليد الشعبية في العاصمة سيمفروبل.
< ما الجمعيات الإسلامية التي تعمل هناك؟ وما نشاطاتها؟
– أبرز الجمعيات الإسلامية التي تعمل في القرم هي اتحاد المنظمات الاجتماعية «الرائد»، والإدارة الدينية لمسلمي القرم «المفتيات»، يقوم اتحاد الرائد في أوكرانيا بنشاطات مختلفة تشمل المجالات التعليمية الثقافية التنويرية من خلال الدروس والدورات والمخيمات الصيفية التعليمية والمدارس الشرعية الأسبوعية ومعهد الرضوان لتحفيظ القرآن الكريم للفتيان.. المجال الخيري ويشمل بناء المساجد، حفر الآبار، كفالة الأيتام، بناء المحميات البلاستيكية.. والمجال الإعلامي الذي يشمل إصدار صحيفة شهرية ومواقع الإنترنت المختلفة، إضافة إلى الاهتمام بالعمل الدعوي الشبابي والنسوي.
< ما طبيعة علاقة مسلمي القرم مع تركيا؟
– يرتبط مسلمو القرم بعلاقة ثقافية مع تركيا، إذ إن لغتهم فرع من اللغة التركية، وكذلك بعلاقة دينية إذ يتبع تتار القرم المذهب السُّني الحنفي، هذا فضلاً عن العلاقة التاريخية، وكما ذكرنا فقد كانوا – سابقاً – جزءاً من الخلافة الإسلامية العثمانية.
< هل هناك وجود تركي في القرم اليوم؟
– نعم، لديهم عدد من المؤسسات التعليمية ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم وتخريج الأئمة والخطباء.
< الأزمة الحالية كيف بدأت؟
– مع شهر أكتوبر من عام 2013م بدأ الحراك الشعبي الأوكراني في العاصمة كييف المطالب بمزيد من الحريات والقضاء على الفساد والمحسوبية، ثم تطورت الأمور بشكل دراماتيكي بعد رفض الحكومة الأوكرانية السابقة التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وإعلان التوجه الكامل نحو روسيا وسياساتها.
سيطرت القوات العسكرية الروسية التابعة لأسطول البحر الأسود الروسي الموجود أصلاً في مدينة سيفاستوبل في القرم على مبنى البرلمان والحكومة القرمية وعدة مطارات، تلا ذلك محاصرة القواعد العسكرية الأوكرانية الموجودة في شبه الجزيرة.
< ما أسباب الأزمة من وجهة نظركم؟
– بعد شعور روسيا بالهزيمة وخسارتها حليفاً إستراتيجياً في شرق أوروبا، دفعت بقواتها لاحتلال شبه جزيرة القرم دون الإعلان عن ذلك رسمياً، حيث يوجد حالياً 30 ألف جندي روسي بكامل عتادهم العسكري.
وتعتبر القرم موقعاً إستراتيجياً مهماً بالنسبة لروسيا، حيث يقع مقرّ الأسطول الحربي الروسي في البحر الأسود فيها، والسيطرة على هذه الجزيرة يعني السيطرة على البحر الأسود.
< ما موقف المسلمين من تلك الأزمة؟ ولماذا يؤيدون بقاء القرم ضمن أوكرانيا؟
– المسلمون مع وحدة القرم مع أوكرانيا.. ببساطة شديدة لأن الروس نقضوا عهودهم عدّة مرات مع المسلمين التتار ولا أمان لهم.
< ما توقعاتكم بالنسبة لتطورات الأزمة؟ هل تتجرأ أوكرانيا وتعلن الحرب على روسيا، أم أنها أضعف من ذلك؟
– الأزمة الحالية معقدة، وخاصة بعد التدخل الروسي القوي وتقديم الدعم الكامل للحكومة القرمية الموالية لها، لن تعلن أوكرانيا الحرب على روسيا؛ بسبب ضعف قواتها العسكرية، وعدم وجود السلاح النوعي المتوافر لدى الروس، والدولة الأوكرانية تعوّل على الدول التي أعطت ضمانات لوحدة الأراضي الأوكرانية (أمريكا، بريطانيا، روسيا) مقابل تخلصها من السلاح النووي عام 1994م.
< في حال نشبت الحرب، ما موقف المسلمين منها؟
– المسلمون ملتزمون بضبط النفس، والحرب ليست في صالحهم، وهم موحَّدون في موقفهم ضد انفصال القرم عن أوكرانيا وضد أي حرب في المنطقة.
< صدرت تصريحات تركية بوقوف الأتراك بجانبكم.. ماذا تنتظرون منهم في حال اندلعت حرب؟
– نعم، عبرت القيادات التركية أكثر من مرة عن دعمها لمسلمي القرم ووقوفها إلى جانبهم ووقوفها مع وحدة أوكرانيا، وفي حال اندلاع الحرب – لا سمح الله – أعتقد أن الأتراك سيقدمون الكثير في المجال الخيري الإغاثي.
< هل ترون جدية من الغرب – «حلف الناتو» – في مساندة أوكرانيا في وجه روسيا؟
– حتى الآن لا نرى إلا تصريحات الشجب والاستنكار من قبل الأوروبيين ووعود بالمقاطعة الاقتصادية لروسيا.
< ما الرسالة التي توجهونها إلى مسلمي العالم في هذه الأيام؟
– ندعو مسلمي العالم إلى نبذ الخلافات الدينية والسياسية، والعمل بجدية على الارتقاء بالإنسان المسلم علمياً وثقافياً؛ تصديقاً لقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (آل عمران:103).