طرح المحللون خلال الأيام الماضية سؤالاً، هو: لماذا تدخلت روسيا مباشرة في الشأن الأوكراني؟ والسؤال جاء لفهم طبيعة التحديات التي تواجه روسيا تجاه الأزمة الأوكرانية الحالية، فقد كان واضحاً للسلطة الروسية أنه بمجرد إجراء الانتخابات الرئاسية الأوكرانية يوم 25 مايو القادم سيتم توقيع اتفاقية التعاون الاقتصادي بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، خاصة وأن الغرب قد اعترف برئيس البرلمان الجديد «ألكسندر تورتشينوف» وقيامه بمهام الرئاسة، واعترف برئاسة الحكومة «أرسان ياتسينيوك».
ومن المعروف لدى موسكو أنه في الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها لن تظهر في المناطق الشرقية والجنوبية شخصيات سياسية يمكنها أن تجمع تلك المناطق على رجل واحد، كما أن الشخصيات الموجودة لن يكون لها وقت لكي تنفتح على المجتمع، والتعريف بإمكاناتها في هذا الوقت القصير، واعتبرت موسكو أن فوز مرشح «موالٍ للغرب» فقط هزيمة سياسية لروسيا، ولكن أيضاً كإشارة إلى عدم إمكانية إرجاع أوكرانيا من موالاتها للغرب؛ ما يعني أن تغيير السياسة الخارجية الأوكرانية بكل الأحوال سيكون صعباً للغاية، حتى وإن أصبح رئيس أوكرانيا رجلاً من المناطق الموالية لروسيا.
خط جديد
في هذه الظروف، بدأت السلطات الروسية ببناء خط جديد لقواعد السلوك السياسي، بتشكيل مركز بديل للسلطة التي يمكن دعمها بالموارد السياسية والاقتصادية والعسكرية، في غضون أيام قليلة، قامت روسيا بتنفيذ الإجراءات لثلاثة سيناريوهات محتملة؛ أولها: كان من المفترض إنشاء مركز للنفوذ في «خاركوف»، فبمجرد وصول المعارضة إلى السلطة، عقد مؤتمر لنواب من مختلف المناطق من جنوب وشرق البلاد، ومع ذلك، فإن هذا الخيار فشل بسرعة؛ وذلك لأن منظمي المؤتمر لم يكونوا جاهزين لمعرفة أن النخب السياسية في شرق البلاد لم تكن مستعدة لبدء مواجهة مفتوحة مع كييف، فحاكم منطقة «خاركوف» (الآن أصبح الحاكم السابق) «ميخائيل دوبكين»، ورئيس بلدية «خاركوف» «جينادي كيرنيس» سرعان ما تخليا عن الفكرة وآثرا الاحتفاظ بمواقعهما في المنطقة.
أما السيناريو الثاني: فقد ارتبط بالاستفادة من «شرعية» الرئيس «يانوكوفيتش»، الذي تعتبره روسيا الرئيس الشرعي، حيث أعطته ملجأ وسمحت له بعقد مؤتمر صحفي، أملاً في أن يطلب «يانوكوفيتش» كرئيس من روسيا الحصول على مساعدة عسكرية، ومن وجهة النظر السياسية، من غير المرجح أن تكون مثل هذه الخطوة فعالة، ولكنها يمكن أن تكون حجة شبه قانونية لدخول القوات الروسية إلى الأراضي الأوكرانية، ومع ذلك، ففي مؤتمره الصحفي لم يصدر «يانوكوفيتش» هذا النداء، كما أنه لم يبدِ رغبة في التوجه إلى شبه جزيرة القرم للاستقرار فيها؛ وبالتالي فشل السيناريو الثاني.
ثم بدأ تنفيذ السيناريو الثالث: وهو سيناريو «القرم»؛ ففي بداية 28 فبراير، قامت مجموعة غير معروفة بالسيطرة على مبنى البرلمان والحكومة في القرم، ورفع العلم الروسي عليه، كما أخذ بعض الرجال المسلحين السيطرة على مطار «سيمفيروبول» و«سيفاستوبول»، وفي جلسة للبرلمان وبحضور مجموعات «غير معروفة» قرر المجلس الأعلى للقرم إجراء استفتاء على الحكم الذاتي، وزيادة الصلاحيات القانونية للجمهورية، وتعيين رئيس جديد للحكومة.. ثم في أول مارس الجاري، ناشد رئيس الوزراء المعين حديثاً «سيرجي أكسيونوف» روسيا بتقديم المساعدة المباشرة، موضحاً سبب طلبه ذلك، تواجد «مجموعات مسلحة مجهولة الهوية والمعدات العسكرية» في شبه جزيرة القرم (التي يعتبرها الجانب الأوكراني معدات روسية).
أي أن «أكسيونوف» أصدر بياناً، لم يجرؤ على إصداره لا «يانوكوفيتش» (على الرغم من دعمه للمساعدة الشاملة لحماية سكان شبه جزيرة القرم )، ولا كذلك النواب في برلمان «الرادا» الذين فروا إلى روسيا؛ منهم «إيجور كاليتنيك»، و«فلاديمير ألينيك» اللذان اكتفيا بحث زملائهما بعدم التعاون مع السلطات المجرمة وألا يعترفوا بها، وطالبا بإنشاء مليشيا طوعية على نطاق واسع للحفاظ على النظام، وتأسيس اتصال بينهم لمقاومة المتشددين الفاشيين، علاوة على ذلك، فإن «أكسيونوف» الذي ركز في تحركاته بشكل صارم على روسيا، أعلن نفسه قائداً عاماً لجميع وكالات إنفاذ القانون في إقليم شبه جزيرة القرم، وطالبهم بتقديم الولاء المباشر له شخصياً.
في نفس ذلك اليوم حصل «بوتين» على تفويض من مجلس الاتحاد (مجلس الشيوخ) باستعمال الجيش الروسي على الأراضي الأوكرانية عند الحاجة.
رد فعل حاد
روسيا التي تنظر باستياء لتدخلات الغرب في الشأن الأوكراني، كان رد فعلها حاداً تجاه تصريحات الرئيس «أوباما» التي قال فيها: «إن روسيا ستدفع ثمناً باهظاً في حال تدخلها العسكري في أوكرانيا»؛ وهو ما دفع مجلس الاتحاد بطلب الرئيس سحب السفير الروسي من واشنطن، ويبدو أن القادة الغربيين يحاولون إقناع الرئيس «بوتين» بتخفيف لهجته والتوصل معه إلى حلول وسط, والانخراط في حوار سياسي لحل الوضع الراهن في شبه الجزيرة.
وقد سارعت موسكو بحديثها عن استثمارات روسية بقيمة 5 مليارات دولار، ومساعدة مالية مستعجلة بمليار دولار لحل القضايا الاجتماعية والاقتصادية لسكان شبه الجزيرة.. وذلك في الوقت الذي جاءت نتيجة استفتاء 16 مارس الماضي برغبة سكان القرم بالانضمام لروسيا، وهو الاستفتاء الذي تحوم حوله شبهات التزوير.
مسلمو القرم
الوضعية التي يتواجد فيها المسلمون في شبه الجزيرة لا يحسدون عليها، فمن ناحية استطاعوا أن يبنوا علاقات جيدة في السنوات الأخيرة مع السلطة في كييف والحصول على بعض حقوقهم المسلوبة، ومن ناحية أخرى يخافون من أن يجرفهم التيار فيجدوا أنفسهم بعيدين عن المشهد السياسي؛ وذلك لموقفهم المساند للسلطة الأوكرانية الجديدة الذي أبدوه في بداية الأحداث خوفاً من موسكو، خاصة في ظل أغلبية روسية في جزيرة القرم.
*باحث في الشؤون الإسلامية
في دول الاتحاد السوفييتي السابق