يعيش العالم العربي موجة من التغييرات الثورية والتحولات في ميزان القوى
يعيش العالم العربي موجة من التغييرات الثورية والتحولات في ميزان القوى لا تكاد تشتعل منطقة منها بالأحداث وينشغل الناس بها إلا وتشتعل بقعة أخرى بنارٍ أشد اشتعالاً وتفجيراً واحتراباً بالمجتمع والناس، وهي كالسفينة في بحر تتقاذفها الأمواج والرياح في يوم عاصف.
في العراق اليوم ثورة على الطغيان الطائفي الذي أنتجه «المالكي» ومليشياته منذ أن ولي رئاسة الحكومة، هذه التحولات الثورية الجديدة في العراق تترك الحليم حيران، فالتقدم السريع للمجاميع الثورية السُّنية العشائرية ومنها قوى المقاومة وما أطلق عليه «داعش» (دولة العراق والشام)، وتقهقر الجيش العراقي الذي أسسه الحكم الطائفي في العراق، يصعب فهمه، وما يحدث عن هذا التغيير الثوري المسلح، كما يُتعذر فهم المواقف السياسية الداخلية والفتاوى الدينية في العراق تجاه الحدث، وما المواقف الرمادية للموقف الدولي للولايات المتحدة والأطراف الدولية والإقليمية لدول الخليج وتركيا وإيران إلا من هذا الباب.
لقد اختلطت الرؤية عند المشاهدين والمؤيدين والمعارضين على جميع الجهات, ولفك التشابك ومحاولة تسكين المشهد سياسياً وميدانياً لا بد من فك تشابك الموقف وتحليله وفق هذه المستويات الثلاثة:
الأول: فهم الحالة السياسية في العراق.
والثاني: فهم المعادلة السياسية.
والثالث: النظر في الرؤى الإستراتيجية تجاه العراق.
أولاً: الحالة السياسية في العراق:
منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003م وإلى اليوم لم تستقر الحالة السياسية في العراق في إطار نظام سياسي مستقر، وإنما تم تشكيل حالة من «الصندقة السياسية»؛ في إطار التدافع المنضبط في صراع النفوذ «الأمريكي – الإيراني».
يعني حالة سيولة سياسية احترابية يقوم بها المكون السياسي والديني الشيعي؛ لتطهير الدولة، وبأدوات الدولة، وتحت ظلال الدستور من المكون السياسي الاجتماعي السُّني الذي حكم العراق الحديث عقوداً من الزمان، واجتثاثه من عمق الدولة في الجيش والمؤسسات الحكومية والمدنية ومركز القرار السياسي، والتهميش اجتماعياً واقتصادياً، وتحويل المكون السُّني إلى مواطنين من الدرجة الثانية، وقد مرت هذه الأمور بمراحل بدأها «الجعفري»، ثم «المالكي» الذي تصدى لهذه الغاية، ليجذر سيطرة الحزب الواحد «حزب الدعوة» كبديل عن «حزب البعث» مع جبهة واسعة من الأحزاب السياسية الشيعية وبعض المكونات السياسية السُّنية شبيهة بالجبهة الوطنية الديمقراطية في سورية.
وفي الوقت نفسه، أرسى حالة من العلاقات المصلحية والتفاهم مع الولايات المتحدة وإيران.
ولكن حالة التهميش والاحتراب وُوجهت في مراحل متعددة من المقاومة العراقية، تبعتها «القاعدة»، وقد ضعفت المقاومة بعد تأسيس الصحوات لمواجهة «القاعدة»، وتوقفت بعد الانسحاب الأمريكي عام 2011م ودخول القوى السياسية السُّنية الفاعلة في العملية السياسية التي أدت إلى حالة التهميش والعنف الممنهج للمناطق السُّنية والمكون السُّني في العراق، واتبع «المالكي» سياسة الأرض المحروقة وتسليط قانون الإرهاب الذي صفى به كل الرموز السُّنية المعارضة، ثم اتجه نحو التمكين الميداني والسيطرة على الجغرافية السُّنية العراقية، وتحطيم الاقتصاد والخدمات الأساسية فيها، وصاحَبَ ذلك سحق الشخصية السُّنية بالانتهاكات الأخلاقية، انطلاقاً لقبول السُّنة بالمواطنة من الدرجة الثانية، هذا أدى إلى انطلاق حراك شعبي مضاد عام 2013م في المناطق السُّنية في الأنبار وديالى والموصل، وكان هذا الحراك هو الورقة الأخيرة ليستعيد السُّنة حقوقهم السياسية والإنسانية كمواطنين عراقيين، إلا أن خطة «المالكي» في مواجهة هذا الحراك عسكرياً أدت لثورة العشائر، وتدخل «داعش»، في كر وفر بين الجهتين، وإلى حالة من الفوضى، إذ إن انطباق المصالح وتناقضها – من جهة أخرى – أدى إلى مد وجزر في استمرار الحالة الضبابية للموقف الميداني على الأرض، لكن هذا الموقف الميداني شكَّل حالة نهوض وفرصة للقوى العشائرية والثورية وكتائب المقاومة التي تأسست لتقوم بنهضة عسكرية وميدانية لمواجهة خطة «المالكي».
والمفاجأة أن الجيش العراقي الذي أسسه «المالكي» قد انهار بسبب طبيعة تكوينه، إذ ينقصه الاحتراف الحقيقي، والعقيدة القتالية العسكرية، فانهزم في أول احتكاك ميداني حقيقي مع «داعش» في الموصل؛ مما شجع ثوار العشائر والمقاومة (فصائل دينية)، وجيش النقشبندية (بعث العراق) إلى الاستفادة من التحركات الميدانية والسيطرة على المواقع الحيوية في الموصل وديالى والأنبار وأطراف من حزام بغداد الجنوبي.
لقد أدى هذا الموقف إلى:
– تهميش الحالة السياسية والاتجاه نحو الحسم الميداني لكل الأطراف.
– تصعيد في الخطاب والحشد الطائفي في كل الجهات.
– استعداد جميع الأطراف إلى العسكرة لحسم معركة بغداد المتوقعة.
– تغيير نسبي طفيف في موازين القوى الميدانية لصالح المحتوى السُّني والكردي.
– استمرار حالة اللا استقرار السياسي والميداني في المناطق السُّنية والشيعية.
ثانياً: فهم المعادلة السياسية:
وهي نتاج تفاعل صراع أو تحالف بين القوى الإقليمية والدولية نحو المصالح المشتركة.
فالمعادلة السياسية في العراق تعني أن نتائجها تنصب في تحقيق:
1- المصالح الرئيسة للأطراف الكبرى الدولية والإقليمية.
2- استثمار التحولات والتغيرات الميدانية باتجاه سياسات جديدة لهذه المصالح.
3- توظيف الصراع أو الاستقرار للتمكن من المصالح.
وعليه، فإن ناتج مشروع عراق الاحتلال الأمريكي والحكومات الشيعية المستظلة بالغطاء الإيراني قد حصدت للطرفين الأمريكي والإيراني المصالح والتفوق على القوى الدولية الأخرى (روسيا، والصين)، والقوى الإقليمية مثل (تركيا، ودول الخليج)، وأوجدت نظاماً طائفياً شيعياً يحقق المصالح ويستثمر التحولات ويوظف الصراع للتمكن من المصالح.
لكن هذا النظام فشل في استيعاب المكونات الاجتماعية الأخرى؛ لأنه بالَغَ في طائفيته، واستبد سياسياً، وانتهج الإرهاب والتصفية والتهجير؛ فحرق المراحل التدريجية بخطوات سريعة، معتقداً أن الظرف والدعم الأمريكي الإيراني قادران على منع أي ثورة في الجغرافية السُّنية، أما الأكراد فكان يعتقد أن لعبة المصالح تستهويهم، ويمكن احتواؤهم في إطارها.
وكان المخطط هو أن تكتفي إيران بحكم شيعي للحالة السياسية في جغرافية شيعية تستهلك المنتجات الإيرانية في الجنوب وبغداد، لكن واقعياً وجدوا أن المكون السُّني ضعيف وممزق، ولا يجد راعياً إقليمياً، فكان التفكير بأن يصبح العراق كله تحت المظلة الإيرانية في مقابل توفير المصالح الأمريكية ورعايتها، فتقوم إيران بالحرب على الإرهاب «أي مقاومة عسكرية سُنية» نيابة عن الأمريكيين بأدوات دولة «المالكي» والاتفاقيات الأمنية مع تسهيل انسياب النفط.
لكن المعادلة السياسية اختلت حالياً بسبب نمو حراك سُني صَلّبَ التحديات أمام «المصالح الإيرانية والأمريكية» التي يحاول «المالكي» استيفاءها ليعيد النظر في ترتيب لعبة المصالح من جديد، وليعيد كلٌّ من الأمريكيين والإيرانيين النظر في تلك المعادلة؛ لإيجاد مصالح مستقرة ومضمونة بوجود قوة سُنية متوازنة مع قوة دولة «المالكي»؛ مما يعيد للسُّنة وضعاً سياسياً وأمنياً واجتماعياً كمواطنين حقيقيين أفضل من انتقاص أو ضياع تلك المصالح في استمرار الصراع.
لذا، فإن المعادلة السياسية سيعاد تشكيلها وفق التطورات الميدانية، ومدى قدرة الثوريين وحركات المقاومة و«داعش» في إيجاد معادلة متماسكة يتكئ عليها الأمريكيون للتفاوض مع الإيرانيين لجلب حالة الاستقرار السياسي.. هذا ما سنراه في الأيام القادمة.
إن تلك المعادلة السياسية لن تتغير بشكل جذري أيضاً ما لم يكن للأكراد موقف في هذه التحولات نحو مكتسبات ميدانية، وعلى الأقل تثبيت الحدود الكردية في الإقليم واستقلاليته كاملاً، كما أن تلك المعادلة ستواجه تحدي مواقع القوى الإقليمية الأخرى كتركيا ودول الخليج وخصوصاً السعودية والكويت.
ثالثاً: فهم الرؤى الإستراتيجية تجاه العراق
يشكل العراق موقفاً إستراتيجياً مهماً في مشروع الشرق الأوسط الكبير بالنسبة للولايات المتحدة، فقد نجح الاحتلال عام 2003م في إضعاف العراق كقوة عسكرية إستراتيجية، تشكل تحدياً لـ«إسرائيل»، وهو هدف إستراتيجي للسياسة الأمريكية في المنطقة، كما أنها أيضاً نجحت في إبقاء العراق في صندوق الأمن القومي الأمريكي باتفاقية أمنية وحافظت على الحصول بأسعار مقبولة للنفط العراقي، وهذا أيضاً أحد الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة.
أما إيران، فقد حصدت نتائج موقفها من احتلال العراق، وحققت أهدافها الإستراتيجية؛ وهو أن يكون العراق الشيعي منضوياً تحت العباءة السياسية الدينية لإيران، وأن يكون الحديقة الخلفية للمنتجات الإيرانية، والممر الإستراتيجي للبحر الأبيض المتوسط عبر سورية ولبنان، وحرصت على أن تظل هذه الجغرافية تحت السيطرة، وساهمت بشكل كبير في إبقاء حمص ممراً متصلاً مع العراق إبان الاحتراب المستمر بين الثورة السورية والنظام السوري، وما زالت مستمرة في الدعم لإبقاء هذا الممر الإستراتيجي الحيوي لها.
أما «إسرائيل»، فإنها مع حلول عام 2017م، تقترب من هدفها الإستراتيجي في إتمام عملية التفتيت الإستراتيجي (أمنياً وجغرافياً واقتصادياً) للمنظومة العربية المحيطة بها، والعراق الموحد جغرافياً وسياسياً الذي كان يشكل تهديداً لها.
فالرؤية الإستراتيجية «الإسرائيلية» للعراق هو إبقاؤه ضعيفاً، فأي سيناريو يبقي العراق مجزءاً أو محترباً، يتفق مع الرؤية «الإسرائيلية»، وعليه فإن القوى الثلاث (إيران، والولايات المتحدة، و«إسرائيل») تتفق في رؤية إستراتيجية موحدة؛ وهي دفع الحالة السياسية والميدانية في العراق نحو الوصول للسيطرة والتجزئة والتفتيت، وتأتي المطالبات بإيجاد أقاليم ثلاثة؛ «للشيعة، وللسُّنة، وللأكراد» حالة ديمجرافية وسياسية متوافقة، وتلك الرؤى الإستراتيجية، إذ تبقى المكونات الديمجرافية تحت السيطرة ومن السهل دفعها للاحتراب أو المصالحة وبالاتجاهات التي تريدها تلك الأطراف، وإنما الخلاف هو على حجم المصالح لكل طرف من هذا السيناريو.
لقد كان المكون السُّني ابتداءاً يعارض هذا التوجه ويسعى لعراق موحد، ولكن حصاد الاحتراب الطائفي لدولة «المالكي» وإفساده في الأرض السُّنية أدى إلى اقتناع المكون السُّني بأن الحل في الإقليم السُّني بما في ذلك ما يسمى بـ«داعش»، إذ تعتقد «داعش» أن لديها القدرة على السيطرة على جغرافية السُّنة بما يتوافر لديها من قوة وعتاد ومال، وأما العشائر وقوى المقاومة فأيضاً راضون بالإقليم السُّني؛ لأنه يحقق لهم إعادة توطينهم سياسياً واقتصادياً ويحررهم من دكتاتورية السلطة الشيعية المركزية، وأما مواجهة «داعش» فيمكن عزلها عن الحاضنة الاجتماعية السُّنية بعد ذلك.
لذا كل التوقعات والتوافقات تؤيد الاتجاه نحو إقامة أقاليم ثلاثة وتعديلات دستورية وحكومة توافق وطني تدير الحالة السياسية للدولة.
وهذا يقتضي على المستوى الداخلي:
1- تغييراً ميدانياً عسكرياً حاسماً على حدود بغداد يشكل ضغطاً على «المالكي» والتحالف الشيعي بقبول بفكرة الإقليم السُّني.
2- إعطاء الأكراد مطالبهم في كركوك وخريطتهم المستقلة.
3- تفاهم القوى الثورية الميدانية السُّنية على رؤية الإقليم السُّني وعلاقته بالدولة الاتحادية.
على مستوى التفاهم الإقليمي والدولي:
1- التفاهم الإيراني – الأمريكي على حدود المصالح، ودور إيران في إطار التفاهمات الداخلية وخصوصاً فيما يتعلق بالممر الإستراتيجي إلى سورية.
2- التفاهم مع تركيا ودورها في العراق المتفاهم، وموقع التركمان العراقيين في المعادلة السياسية.
3- التفاهم مع دول الخليج حول تأثير الإقليم السُّني والشيعي عليها.
فاليوم غالبية الأطراف الداخلية والخارجية تحت ضغط الواقعات الميدانية وقصف التدافع الطائفي وعسكرة وحشد المكون الطائفي والخطاب الإعلامي لا تفكر بالعراق الموحد الإستراتيجي بقدر ما تفكر بالأقاليم الثلاثة، وكيفية إنتاجها وتشكيلها في إطار عراقي سياسي تحت السيطرة والنفوذ الدولي والإقليمي.