أثارت تطورات الأحداث في العراق بوجه خاص قضية “داعش” وعلاقتها بالولايات المتحدة
أثارت تطورات الأحداث في العراق بوجه خاص قضية “داعش” وعلاقتها بالولايات المتحدة؛ مما يجعل البحث في هذا الموضوع ملحاً، خاصة وأن واشنطن هي المسؤول الأول عما دار في العراق على أساس طائفي، بينما الطائفية في سورية ليست واضحة، ولذلك فإن إرباك إيران وإرضاء الحلفاء و”إسرائيل” دفع العدد الأخير من تقديرات مركز بحوث الأمن القومي “الإسرائيلي” إلى طرح مسألة التدخل العسكري الأمريكي، كما أسهمت الدوائر الصهيونية من قبل في توريط واشنطن في العراق في أعقاب أحداث سبتمبر 2001م، ولذلك ناقشنا هذا الافتراض وقدمنا عدة أسباب تجعل التدخل العسكري مستحيلاً، ولكن الموقف يسمح بالتسلل العسكري على ضوء طبيعة العلاقة المفترضة بين “داعش” وواشنطن.
فلا تزال السياسة الأمريكية وستظل في العالم العربي والإسلامي غامضة، كما لا تزال تحليلات المراقبين لهذه السياسة مجرد تكهنات؛ لأن الاعتماد على البيانات الرسمية وحدها هو الطريق إلى التضليل، وفي أحسن الفروض تبدو متناقضة، وهذه سمة عامة في جميع الملفات الإقليمية في مصر ولبنان وسورية والعراق، والخليج بشكل عام، وفي الصراع العربي “الإسرائيلي”، ويبدو أن “مارتن إنديك” السفير الأمريكي الأسبق في “إسرائيل” قد يئس من هذا الغموض، أو من جدوى منطق هذه السياسة أياً كان اتجاهها، رغم أنه كان قد اتُّهم بالتجسس لصالح “إسرائيل”، ولكن “مادلين أولبرايت” رقَّته مساعداً لها لملف الشرق الأوسط، ثم اختير مؤخراً مبعوثاً خاصاً للرئيس.
والسؤال الذي يلح على الرأي العام في العالم العربي هو: ما حقيقة العلاقة بين “داعش” والولايات المتحدة؟ تركت التصريحات الأمريكية حول العراق وسورية الباب مفتوحاً لإجابات متعددة، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة اتجاهات.. الأول: يرى أن واشنطن تعادي “داعش”، ونستدل على ذلك من الحديث عن تصنيفها كمنظمة إرهابية، متماهية في ذلك مع دول خليجية وإسلامية أخرى، وأسعدها الصدام بينها وبين النظام السوري، ورحبت بشكل أكبر بخطابها الطائفي؛ لأن هذا هو مربط الفرس، فلا يهم واشنطن عنف “داعش” والجماعات الإسلامية الأخرى ما دامت تحقق لها هدفاً أسمى هو تدمير المسلمين بأيدي المسلمين، وإظهار المسلمين والإسلام بأنهم هم أعداء أنفسهم، وأنهم إرهابيون على الأرض، بقطع النظر عن الإسلام نفسه كدين يحض على التسامح والتعايش.. ولكن هذا التيار لاحظ أن الموقف الأمريكي بالغ المرونة في المواقف الإجرائية مادام ذلك يقود في النهاية إلى هدفها وهو تدمير الدول العربية والإساءة إلى الإسلام والمسلمين بفعل المسلمين، مما يمكِّن الغرب بعد ذلك أن يطرد الأقليات الإسلامية مع تزايد الاتجاهات اليمينية المتطرفة والتي هيمنت على تشكيل الحكومات الأوروبية والبرلمان الأوروبي، وسن تشريعات للعائدين الإسلاميين، حرصاً على مجتمعاتهم من هذا الخطر الجديد، في سوريا تدعم واشنطن” داعش”، ولكن واشنطن تعلن دعم المعارضة السورية المعتدلة حتى تواجه “داعش”، أكثر من هدف حماية الشعب من بطش المتحاربين، كما أن واشنطن في العراق تظهر فزعاً مصطنعاً وموقفاً حتى اتهم بعض الأمريكيين ودوائر صناعة القرار في واشنطن إدارة “أوباما” بالتردد، كما حذرتها إيران من التدخل مرة أخرى في العراق.
التيار الثاني: يتفق مع التيار الأول في نقطة البداية، لكنه يختلف معه في النتائج، ونقطة البداية هي أن واشنطن تمسك بخيوط اللعبة، وأنها ليست ضائعة في المشهد؛ وترتيباً على ذلك، يرى هذا التيار أن واشنطن ذات التاريخ الطويل مع التيارات الإسلامية واستخدام هذه التيارات لتحقيق أغراضها هي التي تحرك “داعش” كأداة لإحداث الآثار التي تريدها واشنطن، فـ”داعش” ذاتها وما تفعله من عنف باسم الإسلام مثل “النصرة” وغيرها تعطي الانطباع الذي تريده واشنطن، واستكمالاً للصورة السلبية التي حققتها أحداث سبتمبر 2001م، وبررت بها واشنطن الحملة الدولية على الإرهاب، وهي الآن تجدد هذه الحملة، ولذلك لا يرى هذا الاتجاه تناقضاً بين المواقف الأمريكية المختلفة؛ لأن كل موقف مرهون بمدى رؤية واشنطن لجدواه في تحقيق هدفها الذي يتمنى – وفق هذا الرأي – أن يشعل العرب والمسلمون النار في أنفسهم، فتتوزع بلادهم إلى شظايا ويعاد رسم خرائطهم بما يجعل “إسرائيل” هي الدولة القومية الوحيدة، ومن الواضح أن واشنطن تركز على البعد الطائفي منذ عقود، بل إن الموقف الأمريكي بدأ يتضح من هذه المسألة منذ تحريض العراق على محاربة إيران ورفع وتيرة الحديث عن الانقسام السُّني – الشيعي، وكانت واشنطن تدرك جيداً أن هذه الفتنة الطائفية هي القاضية على الإسلام والمسلمين، ولابد من الاعتراف بأن واشنطن نجحت نجاحاً باهراً في العراق، فكانت تقف مع الشيعة ضد السُّنة، ثم اتجهت إلى مساندة السُّنة ضد الشيعة بعد انسحابها من العراق، وهي تشعر بالراحة وهي ترى السُّنة الذين كانوا يشكلون المقاومة العراقية ضد الاحتلال يتعرضون للهوان على يد حكومة طائفية.
إن “داعش” بالنسبة لواشنطن سوط ضد الشيعة، للضغط على إيران وتعرض حدودها للخطر، والضغط على “المالكي” لتشكيل حكومة وطنية كما طالب السيستاني، تُرضي السُّنة، ولن تعدم واشنطن حيلة أخرى للوقيعة بين الطرفين، وقد استفادت واشنطن من تقدم “داعش” في الموصل؛ لأنها مكَّنت الأكراد من الاستيلاء على كركوك ذات الأقلية السُّنية والأكثرية الكردية وذات الوزن البترولي، وتنمية علاقات الصداقة بين الأكراد و”إسرائيل”، وقطع الطريق نهائياً على أي وحدة إقليمية عراقية، وبذلك تحقق هدف “جون بايدن” الذي قدم قانوناً للكونجرس عام 2006م بتقسيم العراق، ومخطط تقسيم العراق في الدستور الذي وضعته سلطات الاحتلال عام 2005م، بعد أن أفصحت واشنطن عن هذا المخطط في تفسيرها الشاذ لقرار مجلس الأمن (رقم 688) في أبريل 1991م بشان المساعدات الإنسانية للاجئين إلى تركيا بعد قمع “صدام” للهبة المدبرة ضده في غمرة تدمير الجيش الغازي في الكويت.
ولذلك فإن تقدم “داعش” يوجه بموقفين؛ الموقف الأول: هو أنه تقدم للإرهاب ضد الدول الآمنة، وأن هذا التقدم يعقِّد مشكلات هذه الدول ولا يحل إشكالياتها، وهو في النهاية إرهاب إسلامي بما يترتب على هذا الوصف من تداعيات، هذا الموقف يطالب واشنطن بمساندة حلفائها لصد هذه الموجة.. ولكن تقدم “داعش” عند أصحاب الموقف الثاني ليس مفاجئاً، فهم بقايا الجيش العراقي منذ أيام “صدام”، ويحمل في طياته كراهية لإيران والسعودية والكويت ولشيعة العراق ولـ”إسرائيل” وللأمريكيين، وأنها خليط من جنسيات مختلفة اجتمع على قاعدة واحدة وهي ظلم الشيعة للسُّنة في العراق، وظلم العلويين للسُّنة في سورية بصرف النظر عن مدى دقة هذه التقسيمات.
عند أصحاب الموقف الثاني، تسعى “داعش” إلى إنصاف السُّنة حتى لو كانت بوسائل متطرفة؛ لأن التطهير الطائفي للسُّنة في نظر أتباع هذا الموقف كان هو الآخر بالغ التطرف.
أما التيار الثالث: فيرى أن واشنطن فقدت السيطرة على الموقف، وأنها لا تدري ماذا تفعل، وأن التطورات المتسارعة أخذت بخناقها وهي لا تستطيع أن تقرر التدخل من عدمه، وشكل هذا التدخل ومستواه، وأنها لا تعرف إلا مبدأً واحداً وهو تجنب استخدام قواتها المسلحة لأي سبب، واستدل أصحاب هذا التيار بالخط العام الذي أكده الرئيس “أوباما” في مختلف المناسبات وخاصة في الفترة الأخيرة.. يرى أنصار هذا التيار أن واشنطن تحاول استغلال الفرصة، ولم تعد هي التي تصنع الفرصة؛ ولذلك أسعدها إمداد روسيا للعراق بالطيران، وهي تعلم جيداً أن هذا القرار الروسي يعتبر جميلاً لإيران، كما أنه يعبر عن خشية روسيا من هذه التيارات الإسلامية ومنها مقاتلون من الشيشان، والثابت الوحيد عن واشنطن في هذا السياق هو ألا تضر هذه التطورات بـ”إسرائيل” ومشروعها الصهيوني في المنطقة.
ونحن نميل إلى القول بأن واشنطن لابد أن يكون لها علاقة حقيقية استخباراتية على الأقل بكافة الاتجاهات والجماعات الإسلامية، حيث أنشأت بعضها بما فيها “القاعدة” ومسمياتها المختلفة، و”داعش” وأخواتها.
المهم ماذا تريد الولايات المتحدة في هذا السياق بخلاف “إسرائيل” والبترول والمصالح الإستراتيجية؟
يبدو أن المؤشرات جميعاً تؤكد أن مخطط التقسيم وإعادة رسم خرائط المنطقة بما يضمن إنهاء الدولة العربية، وتعزيز وجود دولة “إسرائيل” قد بدأ فعلياً منذ عقود تحت ستار السلام مع “إسرائيل”، وقد كانت واشنطن البطل في كل أحداث المنطقة دون استثناء وفي نفس الاتجاه، فهي التي حرضت على الحرب المدمرة بين إيران والعراق لأكثر من ثماني سنوات عقب الثورة الإسلامية في إيران، لعل هذه الحرب تقضي على الثورة وتعيد إيران إلى أسرة الشاه، كذلك كانت واشنطن وراء الغزو العراقي للكويت، وما تبعه من دمار للعراق والمنطقة وتدمير الجيش العراقي، كما أن واشنطن تقف وراء المأساة الراهنة في سورية، وتحاول الآن معاقبة سورية والمدن العراقية التي قاومت الغزو والاحتلال، كذلك احتلت واشنطن العراق وأشرفت بشكل مباشر على دماره وتمزيقه، وهي التي أحيت القومية الكردية والقومية الفارسية والقومية التركية؛ لإزاحة القومية العربية التي تآمرت ضدها بسلسلة من الحكام المستبدين، فصرفت المنطقة إلى الصراع فيما بينها وتركت “إسرائيل” تكمل مشروعها.
ولا شك أن واشنطن مصرة على تمزيق المنطقة واستغلال الجماعات الإسلامية في ذلك حتى تضرب الإسلام والمسلمين، وحتى لا يبقى في المنطقة متماسكاً سوى “إسرائيل”؛ ولذلك ترسل للعالم رسالة واضحة بأن المسلمين والعرب إرهابيون، وأنها تمكنت من توجيه إرهابهم إلى نحورهم، ولكن الرسالة الأبعد هي الإعداد لطرد المسلمين من الغرب، خاصة وأن الكثير من أبنائهم يحاربون في صفوف “داعش”، و”القاعدة” وغيرهما، أخذاً في الاعتبار أن أوروبا تتجه نحو القوى اليمينية في البرلمانات الأوروبية والبرلمان الأوروبي، وهي الأرضية المناسبة الآن لتنفيذ هذا المخطط.
لو كان الدم المراق من العرب والمسلمين قد أريق طلباً لتحرير المسجد الأقصى لكان ذلك أمراً بطولياً، ولكن ما يحدث استجابة للمؤامرة هو انتحار عربي إسلامي.
ولكنني أظن أن “داعش” وغيرها أدوات لإعداد المسرح للتغيير دون أن تملك آليات إدارة دولة أو الصمود أمام مقاومة المشروع.. ابحث دائماً عن خطايا بعض الحكام وجهل التيارات الدينية والمؤامرة الأمريكية الصهيونية.