والصوم عبادة ثمرتها التقوى
الصوم.. الركن الرابع من أركان الإسلام، وهو فريضة يتعبد بها المسلم لله سبحانه وتعالى سنوياً في شهر رمضان، ما لم يكن من أهل الأعذار الذين فصلها الفقهاء، ورمضان أفضل شهور السنة وفيه خير لياليه، تهفو إليه نفوس الصالحين، وتنتظره مهج العابدين، وكيف لا، والدنيا كلها تتغير لأجل هذا الشهر الكريم؟ فمن رحمة ربنا بالأمة الإسلامية في هذا الشهر أن اختص رمضان بما لم يخص غيره من الشهور.
والصوم عبادة ثمرتها التقوى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ “183”}(البقرة).
كيف نصوم؟
لكي نعرف كيف نحصل التقوى، لابد من الإجابة عن السؤال التالي: كيف نصوم؟
الصيام عبادة الجسد والنفس معاً، وإذا تخلف أحدهما عن الآخر بطل صيامه، فمن الناس من يصوم صوم الجسد بامتناعه عن الطعام والشراب والشهوة، ولكن يطلق العنان لنفسه لتخوض في شهواتها، فلا يكف عن الحرام قولاً أو فعلاً، ولهذا قال النبي “صلى الله عليه وسلم”: «ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث»(الحاكم).
مفارقة عجيبة
عندما تأملت في الصيام كونه عبادة الجسد والنفس، وجدت مفارقة عجيبة، وهي أن في صوم الجسد غذاء للنفس، فالامتناع عن الطعام والشراب يضيق على الشيطان مداخله إلى النفس؛ فتكف عن غيِّها وإلحاحها في طلب الشهوات، ولهذا كان الصوم العلاج النبوي للشباب الذي لا يستطيع الزواج، كما في حديث بن مسعود “رضي الله عنه” عن النبي “صلى الله عليه وسلم” قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» (رواه البخاري ومسلم).
وفي إشارة عامة لوقاية الصوم من عموم الشهوات حديث النبي “صلى الله عليه وسلم” عن أبي هريرة “رضي الله عنه”، قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: «الصيام جنة وحصن حصين من النار» (رواه أحمد).
فإذا امتنع عن الجسد الطعام والشراب، أغلق على النفس باب الشهوات فطلبت في صيام الجسد الغذاء الذي يتناسب مع فطرتها التي فطرها الله عليها فهي روح، والروح أصلها نفخة من روح الله نفخها في أصل الإنسان وهو آدم عليه السلام، يقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ “28” فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ “29” فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ “30” إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ “31”} (الحجر).
فالجسد خلقه الله من طين وغذاؤه من الأرض بما يلائم طبيعته الطينية الأرضية، أما النفس أو الروح، فعلوية المصدر، وصلاحها في طيب غذائها، المتمثل في وحي السماء، وهذه كانت وصية الله لآدم عليه السلام ولذريته من بعده إلى قيام الساعة، قال تعالى: { قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ “38”} (البقرة)، وقال تعالى عن اتباع الأمة لما جاء به النبي “صلى الله عليه وسلم”: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ “7”}(الحشر).
فعندما تتحرر النفس من أسر الجسد وشهواته تعود لفطرتها العلوية، فتبحث عن غذائها في آيات القرآن، أو في أحاديث وسيرة النبي “صلى الله عليه وسلم”، فترقى إلى حيث الملائكة؛ فتجذب الجسد ليرقى معها، فيأنس الجسد بنفسه السابحة في روحانيات ونفحات ربانية، فيستشعر لذة القرب من الله، فينسى آلامه، بل قد يستعذب العذاب طالما كان في سبيل الله تعالى، وهذا ما كان من سيدنا بلال بن رباح “رضي الله عنه” كلما زادوه عذاباً، زادهم استعذاباً، فكان يقابل سياطهم ويحتمي من حرارة الصحراء المحرقة بقوله: «أحدٌ أحد».
ومصعب بن عمير “رضي الله عنه” يترك نعيماً يرفل فيه؛ لأن نفسه سمتْ فسما جسده فزهد في نعيم الدنيا من أجل نعيم الآخرة، فيموت شهيداً، لا يكفيه ثوبه ليكفن فيه.
رمضان روضة نفس
ولذلك فإن المسلم الذي يتعبد إلى ربه بصيامه إيماناً واحتساباً، سترقى به نفسه حيث القرآن الكريم، فيغذي روحه ونفسه وينهل منه نهل العطشى والظمأى، فلا يكف عن العيش مع آيات القرآن تلاوة، وصلاة، وفي نزول القرآن في رمضان إشارة إلى هذه الحالة؛ حيث الارتباط بين صوم الجسد وغذاء النفس، قال تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة:185).
هذه النفس التي تبحث عن غذائها، فتنفض عن الجسد نومه العميق لينتصب بين يدي الله في ساعات السحر، فيأنس بلذة القرب من الله، ويتذوق حلاوة المناجاة في ساعات السحر وفي الثلث الأخير من الليل، حيث نزول ربنا إلى السماء الدنيا في هذا الوقت.
هذه النفس التي تبحث عن غذائها فتجده في متعة الإنفاق والصدقة، فيؤدب نفسها ويطهرها من الشح والبخل وحب المال، فسمت طمعاً في مرافقة النبي في الجنة، وقد وصف لنا بن عباس رضي الله عنهما إنفاق وجود النبي “صلى الله عليه وسلم” في رمضان فقال: «كان رسول الله “صلى الله عليه وسلم” أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله “صلى الله عليه وسلم” أجود بالخير من الريح المرسلة» (رواه البخاري).
رمضان.. والانتصار
إن النصر يتحقق حيثما تحققت أسبابه، وأول أسباب النصر وأهمها على الإطلاق هو الانتصار على النفس، فمتى انتصر المسلم على نفسه انتصر على عدوه، معادلة ربانية لا تتخلف طالما تحقق طرفاها، حيث بانتصار النفس هوان للدنيا وما فيها من متع، وهذا تفسير لكل مشاهد البذل والتضحية في سبيل الله تعالى التي قدمها المسلمون منذ رعيل الصحابة الأول، وكانت كل انتصارات المسلمين الكبرى في رمضان ومنها: بدر، فتح مكة، عمورية، حطين، عين جالوت.. وغير ذلك من معارك انتصر فيها المسلمون.
إن سر الانتصار على النفس في رمضان، فطن إليه أعداء الأمة فوجدوا فيه تهديداً لوجودهم، فحقائق التاريخ الموثقة لديهم تؤكد أنهم لا طاقة لهم بالمسلمين حال انتصارهم على أنفسهم، ولهذا عملوا على إغراق المسلمين بالشهوات أكثر في رمضان من باقي شهور السنة، لتفويت فرصة الانتصار على النفس، وعاونهم في ذلك شياطين الإنس الذين عملوا على إشاعة الفاحشة وإثارة الشهوات، فأغرقوا الأمة بمسلسلات وفوازير وبرامج ومسابقات وأفلام ومسرحيات، أعدوها للعرض في رمضان خاصة!
وأغرقونا أيضاً في بحار من الاستهلاك، فيفترض أن يحدث توفير في ميزانية البيوت المسلمة في رمضان؛ لأنه لا يُتناول سوى وجبتين فقط؛ الإفطار والسحور، ولكن الإنفاق والبذخ والتبذير أشد ما يكون في رمضان، لدرجة تصل لحد الاستدانة لمقابلة هذه النفقات.
إن كلمة السر في المقارنة بين حال الأمة المنتصرة، وحالة الهزيمة والتخلف التي عليها الأمة الآن هي «الانتصار على النفس»
قارنوا بين الأجيال التي أقامت دولة الخلافة في الأندلس وفي تركيا، وبين الأجيال التي سقطت في وجودها هاتان الخلافتان، واجعلوا من كلمتي النفس والجسد وجهاً للمقارنة!
وإذا كنا جادين ولدينا رغبة صادقة وطموح في استعادة أمجاد الأمة وانتصاراتها؛ فلابد أن ننتصر على أنفسنا ونعيد صياغتها من جديد، وها هو رمضان فرصة لتحقيق كل هذه الطموحات، فهل من راغب في الرقي والانتصار؟