تتردد هذه الأيام عبارة شهيرة بين مؤيدي الانقلاب؛ وهي أن مصر الآن في حاجة إلى حاكم عسكري “دكتاتور” قوي ينهي حالة الفوضى السائدة والفلتان الأمني المنتشر في البلاد منذ ثورة الخامس والعشرين
تتردد هذه الأيام عبارة شهيرة بين مؤيدي الانقلاب؛ وهي أن مصر الآن في حاجة إلى حاكم عسكري “دكتاتور” قوي ينهي حالة الفوضى السائدة والفلتان الأمني المنتشر في البلاد منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير، ويقولون أيضاً: إن الدولة تغرق ولا حل إلا في وجود شخصية دكتاتورية صارمة وقوية تستعيد هيبة الدولة وتنقذها من الانهيار، ويؤكدون أن هذا هو الأمل الوحيد في النهوض بمصر لتلحق بركب الأمم المتقدمة.
والحقيقة هي أن العسكر هم من خططوا منذ ثورة 25 يناير للوصول بالبلاد إلى هذه الحالة من الفوضى وغياب الأمن والانهيار الاقتصادي؛ حتى يكفر الشعب بالثورة، وينقلب – بفعل الضغوط الحياتية – على الثوار؛ فتصبح الأرض ممهدة لعودة العسكر من جديد، في نفس الوقت الذي تتم فيه صناعة أسطورة الفرعون العسكري الجديد وتقديمه للشعب من خلال آلة الإعلام الجبارة على أنه الفارس المخلص والبطل المغوار الذي سينقذ الشعب من الثوار الإرهابيين ويستعيد الأمن والأمان ويجلب الرخاء، ظهر هذا المخطط جلياً إبان حكم المجلس العسكري في الفترة الانتقالية؛ حيث انهار احتياطي النقد الأجنبي ليهبط بمقدار حوالي 20 مليار دولار، وانهار الأمن بسبب امتناع الشرطة عن العمل وإطلاق يد البلطجية، وتوالت الأحداث الدامية مثل أحداث “محمد محمود”، و”مجلس الوزراء”، و”ماسبيرو” والتي راح ضحيتها المئات من شباب مصر الطاهر، ونحب في هذا المقام أن نوضح أننا نفرق بين جيش مصر العظيم وحفنة جنرالات المجلس العسكري التي استولت على الحكم بقوة السلاح.
وفي خضم كل هذه الأحداث المؤلمة، وبالرغم من كل هذه المرارات، بدأ الشعب المصري يتنفس عبير الحرية ويشعر بالأمل في استعادة إرادته من خلال انتخابات حرة ونزيهة لأول مرة في تاريخه، فذهب بالملايين إلى صناديق الاقتراع في خمسة استحقاقات انتخابية، وكان الناس يشعرون بسعادة بالغة وهم ينتظرون بالساعات الطويلة في طوابير الانتخابات؛ مما دل على أن هذا الشعب تواق إلى الديمقراطية الحقيقية، واستمر المجلس العسكري في مخططاته؛ فكلما تشكل كيان منتخب سارع العسكر بهدمه عن طريق التفخيخ الدستوري، وبمساعدة الذراع القضائية للثورة المضادة، حتى أتى الرئيس المدني المنتخب والممثل للثورة، فاستكمل العسكر بكل أذرعه في الدولة العميقة مخططاته في إفشال الرئيس وإرباكه بافتعال أزمات ترهق الناس وتألبهم عليه، ثم توج المجلس العسكري مؤامرته بانقلاب عسكري قضى به على آخر مكتسبات الثورة واستعاد رأس الدولة التي فقدها في ثورة 25 يناير، ثم راح يعصف بالحريات ويقمع أي صوت معارض ويرتكب المجزرة تلو الأخرى عبثاً يحاول أن ينهي الحالة الثورية، واستمر هذا القمع حتى تم تتويج الفرعون قائد الانقلاب رئيساً بانتخابات هزلية مزورة أعادتنا إلى عهود غابرة من تزوير فج لإرادة الشعب.
فهل يجلب هذا الحاكم العسكري الحرية للشعب؟ بالتأكيد لا ينتظر من الدكتاتورية العسكرية التي حكمت مصر 60 عاماً وتطل الآن علينا بوجهها القبيح أن تجلب أي حرية للمصريين، وقد قال قائد الانقلاب: إن أمام الشعب 25 عاماً ليكون جديراً بالديمقراطية، وكل التجارب الانقلابية في العالم تؤكد أن الدكتاتور العسكري لا يرضى إلا بشعب من العبيد يدورون في فلكه، ومن سولت له نفسه بأن يخرج عن السرب أو ألا يكون متحمساً في عبوديته فمكانه وراء الشمس، لا يوجد في قاموس العسكريين أي شيء اسمه ديمقراطية، كما أن الدولة العسكرية لا تسمح بسيادة القانون أو استقلال القضاء أو السياسة أو المجتمع المدني، أضف إلى ذلك أن الدولة العسكرية دائماً تؤسس لدولة أمنية بوليسية تهان فيها كرامة الإنسان ويداس عليها بالبيادة، ونتذكر في هذا المقام أن انتهاك الكرامة الإنسانية والتي تجسدت في حالتي “بوعزيزي”، و”خالد سعيد” كان الشرارة الأولى لثورات “الربيع العربي”.
فهل يضحي الشعب المصري بحريته وكرامته من أجل وعود العسكر الكاذبة بتحقيق الأمن والرخاء؟ هل الحرية تمثل الأولوية الأولى للشعب المصري أم أن الخبز يأتي في المقدمة؟ لقد أثبت الشعب المصري العظيم أنه تواق إلى الحرية، وأنه مستعد لبذل الغالي والرخيص من أجل انتزاع حريته وإرادته، أضف إلى ذلك أن الجزء الأكبر من الشعب أصبح أكثر وعياً بخداع العسكر وبوعوده الكاذبة، فلا أمن تحقق ولا عيش توفر، بل زاد الأمر سوءاً، وتفاقمت الأزمات بشكل غير مسبوق منذ الانقلاب، جزء كبير من الشعب تزداد رقعته يوماً بعد يوم يدرك أن الدكتاتورية تساوي العبودية، والديمقراطية تساوي الحرية، والحرية أغلى شيء في الحياة، بل هي الحياة، كما قال أحد الحكماء: “حين يفقد المرء حريته، يموت داخلياً، وإن كان في الظاهر يعيش ويأكل ويشرب”، أما بالنسبة لمستقبل الوطن فلا سبيل للنهضة والتقدم إلا في ظل الحرية والديمقراطية، انظروا ماذا حققت تركيا من قفزة اقتصادية مبهرة في خلال 10 سنوات في ظل الديمقراطية والحرية بعد عقود من الضياع والفساد في ظل الحكم العسكري الدكتاتوري.
فما السبيل إلى الحرية؟ بعد أن أدركنا أن الحاكم العسكري لا يعرف إلا الاستبداد، والاستبداد يساوي الاستعباد ويكرس للفساد، فليس أمام الشعب من سبيل لانتزاع حريته وكرامته إلا باقتلاع الحكم العسكري من جذوره العميقة، والمسألة هنا ليس فيها أي نوع من المواءمة السياسية أو أي مكان للحلول الوسط، بل هي بحق معادلة صفرية، لقد جرب الشعب المصري على مدى ثلاث سنوات منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير الحلول التصالحية مع الدولة العميقة، إلا أن هذه الدولة وبقيادة المجلس العسكري أبت إلا أن تكون المعادلة صفرية، فالذي وضعنا في هذا الوضع هو الانقلاب العسكري وما تلاه من المجازر البشعة والانتهاكات الصارخة للإنسانية، والسؤال هنا: هل يقدر الشعب المصري الأعزل على كسر هذا الانقلاب؟ والإجابة بكل تأكيد: نعم.. لأن إرادة الشعب لا يقهرها السلاح.