يقول الله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ).. هذا المشهد يصور بشكل مختصر مستق
يقول الله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ).. هذا المشهد يصور بشكل مختصر مستقبل أهل الاستضعاف في الآخرة بعدما طغوا في الأرض مع أسيادهم وأصنافهم، فالاتهامات تتبادل، واللوامة تتكاثر، والحسرات تتأجج.
هذه الصورة التي يرسمها القرآن الكريم للحوار بين الخاسرين، بين الطائفة المستضعفة من الشعوب التابعة، التي رضخت للهوان والذل، واستمرأته واستمتعت به، وبين الطائفة المستكبرة الطاغية المتسلطة، المستقوية بالدنيا ومتاعها بالحرام والنهب، التي لا ترى حقا إلا مؤيدها ولا باطل إلا مُعارضها.
ولقد اعتبرهم الإمام مالك رضي الله عنه هؤلاء الفئة من سفلة السفلة، باعتبار أنهم يبيعون دينهم بدنيا غيرهم… أناس لا كرامة لهم ولا عزة، فما الذي استفادوه عندما فرَّطوا في دينهم؟! وما النفع الذي عاد عليهم من رضا أناسًا في غضب الله؟!.. أهي لقيمات سحت تسد الجوع وتملأ البطون وتشبع الفروج؟!
الغريب أن أسيادهم الذين استعبدوهم في الدنيا وأغدقوا عليهم بما لذ وطاب من قوت الشعوب سيتبرؤون منهم يوم القيامة، ولسان حالهم يقول لهم: “هل أجبرناكم على السمع والطاعة؟.. وعندئذٍ يعضون أناملهم من الغيظ بعدما سمعوا كلام شياطين الإنس، ولم ينزلوا على أمر الله.
يقول صاحب الظلال: لو ترى يومئذٍ لرأيت هؤلاء الظالمين يلوم بعضهم بعضًا، ويؤنب بعضهم بعضًا، ويلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض: ﴿يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ﴾.. فماذا يرجعون من القول؟ ﴿يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾.. فيلقون على الذين استكبروا تبعة الوقفة المرهوبة المهينة، وما يتوقعون بعدها من البلاء! يقولون لهم هذه القولة الجاهرة اليوم: ولم يكونوا في الدنيا بقادرين على مواجهتهم هذه المواجهة، كان يمنعهم الذل والضعف والاستسلام، وبيع الحرية التي وهبها الله لهم، والكرامة التي منحها إياهم، والإدراك الذي أنعم به عليهم، أما اليوم وقد سقطت القيم الزائفة، وواجهوا العذاب الأليم, فهم يقولونها غير خائفين ولا مبقين! ﴿لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)!.
فالمستكبرون والمستضعفون من الظالمين، كلاهما ظالم.. هذا ظالم بتجبره وطغيانه وتضليله، وهذا ظالم بتنازله عن كرامته، وحريته، وخنوعه وخضوعه للبغي والطغيان، وكلهم في العذاب سواء، لا يُجزون إلا ما كانوا يفعلون.
إن ثالوث الاستضعاف في الأرض هو: الفقر والجهل والمرض؛ حيث تتكاتف هذه العوامل الثلاثة على المستضعَف وتشله ليأتي المستكِبر المدفوع بغرائزه الحيوانية فيستضعفه ويكرس استضعافه ويحاول أن يبقيه في حالة الاستضعاف هذه حتى يحقق مآربه وملذاته الدنيوية!
فمن يملك المال وإن كان جاهل وأمي فإنه يستطيع أن يؤجر أكفأ المثقفين والمفكرين والعلماء للدفاع عنه، كما أنه لو كان عاجز الجسم فإنه يقدر استئجار الأقوياء والمسلحين لحمايته والدفاع عنه بل للاعتداء على أقوياء الجسم إن أراد، فقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:”لو كان الفقر رجلاً لقتلته”، حيث أدرك الإمام علي أهمية الفقر في استضعاف الإنسان لأخيه الإنسان لدرجة الاستعباد.
والجميع يتذكر ما حدث لـ ” آل ياسر” وهم يتعذبون ويضربون بالسياط لأنهم أسلموا؛ فكانوا يقولون ” أحد …أحد”، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: “صبراً آل ياسر.. فإن موعدكم الجنة “، ولقد تحقق لهم هذا الوعد النبوي وحصلوا على جنتي الدنيا والآخرة؛ جنة الدنيا حينما بنيت حضارة الإسلام؛ وجنة الآخرة عند الله عز وجل بالإيمان والعمل الصالح.. فهل يعي أبناء مجتمعاتنا المستضعفين الدرس ويتحركوا ولو لمرة واحدة اتجاه إنسانيتهم ودينهم الحنيف؟ والله ولي التوفيق.