تمثل النظرية الجناح المحرك للسياسة في الدول التي تبني أسس حركتها على العلم، وفي الغرب تمثل المراكز البحثية والمنظرون الركن الأساسي في منظومة عمل النظم التي تحكم على اختلاف توجوهاتها وأسسها.
تمثل نظرية المكارثية الجناح المحرك للسياسة في الدول التي تبني أسس حركتها على العلم، وفي الغرب تمثل المراكز البحثية والمنظرون الركن الأساسي في منظومة عمل النظم التي تحكم على اختلاف توجوهاتها وأسسها.
ولأن فعل المنتصر القوي يؤثر ويصب في فعل الضعيف، فقد نهلت مجتمعاتنا من ثقافة الغرب وأسسهم الفكرية، ولكن بصورة سلبية أقرب للتبعية العمياء، وذلك على عكس حضارات ومجتمعات أخرى كاليابان ودول شرق آسيا في غالبها التي نهلت من الغرب ما يصلح ولفظت ما يضر.
أزمة في العالم العربي
وحقيقة؛ يعيش العالم العربي عهداً ربما هو الأصعب والأقسى والأسوأ في ظل حالة من الانهيار الثقافي والإنساني والاجتماعي لم يسبق أن عاشتها المجتمعات العربية.
ليست هذه الآثار وليدة اليوم، فهناك تراكمات عبر سنوات طوال وعبر أجيال تلاحقت إلى أن وصلنا إلى هذه الحالة؛ نتيجة التأثر بنظريات منقولة من مجتمعات تختلف كلياً عن مجتمعاتنا، وفي الغالب تتحرر هذه المجتمعات من النظريات المشوهة وسلبياتها ونبقى نحن ندور في غياهبها إلى أن ندمر أنفسنا.
المكارثية النموذج الحي على ذلك التأثر بنظريات استطاع الغرب الذي أنتجها أن يعاقب صاحبها بعد أن اكتشف مساوئها وأضرارها عليه، إلا أننا نعيد الكرَّة ونتمسك بها، فهذه النظرية التي تقوم على فكرة التشكيك في الآخر واتهامه، حيث الأصل فيها الشك بولاء ووطنية كل مواطن إلى أن يثبت العكس، وقد تمت محاسبة “جوزيف مكارثي”، عضو الكونجرس الذي اخترعها، وتم تعنيفه لافتقاده المصداقية وانتهاجه سبلاً متهورة غير قانونية ولا دستورية عام 1959م، وذلك بعد 9 سنوات من انتشار موجة المكارثية التي بدأت عام 1950م في الولايات المتحدة.
البداية قبل مكارثي
نتفق في أن النزعة البشرية ليست كما يعتبرها المنظور الواقعي بأنها قائمة على النزاع، ولا كما يعتبرها المنظور المثالي قائمة على السلام، النزعة البشرية قائمة على الخير والتدافع، وهي الرؤية الإٍسلامية، لكن بين جوانب هذه النزعة يوجد الهوى الذي لو ترك سيحول النفس البشرية إلى شر، المكارثية لامست هوى لدى بعض الشخصيات فَوُجدت قبل مكارثي نفسه، حيث يرجعها البعض إلى عشرينيات القرن العشرين، وذلك مع “جون إدغار هوفر”، مدير الـ”إف بي آي” (1924 – 1974م)، حيث كان “هوفر” مكارثياً، قبل المكارثية، جعل من مطاردة اليساريين من أبناء الوطن شغله الشاغل، على مدى ثلث قرن، وتجسّس على شخصيات كثيرة، من “شارلي شابلن” إلى “آرثر ميللر”، مروراً بالنجمة السينمائية “جان سيباغ”، التي دفعت بها ملاحقات وإشاعات الـ”إف بي آي” إلى الانتحار.
في عام 1950م، عادت المكارثية كنظرية لها أثرها على يد السيناتور “جوزيف مكارثي”، والذي استغلها بدعوى محاربة ومكافحة ومطاردة الشيوعيين في أمريكا، إبان الحرب الباردة، وقد تمكن مكارثي من إيداع العديد من الأمريكيين في وزارة الخارجية وغيرها السجون، لكنه تبين لاحقاً أن اتهاماته لهم، لم تكن صحيحة، فأطلق سراحهم، وبعدها جرى فتح ملفه، خاصة وأنه حاول النيل من كبار قادة الجيش الأمريكي وكيل التهم بالانتماء للشيوعية لهم.
المكارثية إرهاب
إن الراصد لأدوات وطريقة عمل من يحمل المكارثية فكراً يجد أنها نوع قاس من الإرهاب، حيث يقوم النظام الذي ينتهجها على افتراض الخيانة والعمالة والتشكيك في كل من يخالف أو يعارض بل يصل الأمر إلى اتساع الدائرة مع مجرد الشك حتى لو كان مؤيداً.
تقوم الأنظمة الحاكمة التي تنتهج المكارثية وتستعين بها على اختلافها بانتهاج أسلوب إقصائي متعمد ضد المخالفين والمعارضين؛ فأصبحت إرهاباً ضد فكر المقاومة والتحرر والمراجعة للنظام القائم وفلسفته.
فالغوغائية في الطرح أداة فاعلة لدى المكارثيين، ولا يخلو الأمر من الاتهام والتلفيق، هي بالأساس إرهاب يعتمد على الفكر مما يفت في عضد الدول وحرمانها من الاستفادة من العقول والمفكرين؛ لأنه عليهم أن يسيروا في ركب المتحكم وإلا فلا مكان لهم.
تستخدم الإعلام وتتلاعب بعواطف المواطنين وتستهدف تجهيلهم عبر إخفاء المعلومة، وتحكم شخص واحد أو مؤسسة في النشر؛ وبالتالي يقبع المجتمع في فوضى نتيجة التضليل.
أخطارها
إنها تنال بالأساس من قيم المجتمع، وتمثل معول هدم لمفهوم الوطن الآمن, فالقابعون تحت سطوتها يجدون أنفسهم مراقبين محظور عليهم التفكير، يحاسبون حتى على النوايا، وهم مجبرون على الانصياع، وعليهم تقديم أدلة الولاء رغم كونهم مواطنين ولم يثبت عليهم أي اتهام، وفي الأساس تحول الدولة من راعية للمواطن إلى رقيبة عليه، لا تسمح له بالحرية، ويصبح النظام عسكرياً أمنياً أكثر منه برنامجاً ورؤية وتداولاً، وهو ما حدث عندما ادّعى “مكارثي” عام 1950م، في أوج الحرب الباردة أن 205 أشخاص من موظفي وزارة الخارجية الأمريكية هم من المتعاطفين مع الشيوعية، وأن 57 آخرين أعضاء في الحزب الشيوعي، تبعت هذا الإعلان حملة هدفها إضعاف الثقة في أعضاء بارزين في الحزب الديمقراطي، ومنهم شخصيات محترمة جداً مثل “دين أكسون”، و”جورج مارشال”، وعندما أصبح رئيساً لـ”الجنة الفرعية الدائمة للتحقيق” (1953م) تكثفت هجماته؛ فوجّه اتهامات بحق وزير الحربية، “روبرت ستيفنز”، والعديد من المثقفين والرسميين، أدّت نشاطاته إلى خلق “لوائح سوداء”، وتم القضاء على الحياة المهنية للعديد من الناس.. أخيراً، وبعد أن دان مجلس الشيوخ نشاطاته في 1954م، هاجم “مكارثي” الرئيس “أيزنهاور”، ولكن عندها كانت قد ضعفت الثقة بحملته ليحاسب بعدها.
منتجاتها كارثية
المكارثية لا تنتج في النظم التي تستخدمها سوى:
– صناعة الخوف والخطر.
– ماكينات من الشائعات.
– العمل على التزوير والتخفي.
– التلفيق والشك.
– غياب التسامح.
– التشهير والغوغائية في الطرح.
– كره الوطن والخوف منه أكثر من الأمان فيه.
– الانعزالية.
نستطيع أن نقول: إن المكارثية التي تتجدد وتطل علينا على فترات والتي أصبحت الآن ثقافة تتجذر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية هي من الأفكار الهدامة التي وضع ملامحها المفكر الإسلامي مالك بن نبي، ولخصها في حالة الهُزال الحضاري والقابلية للفشل والتخلف، والاستعمار، الناتجة عن سريان الأفكار الخاطئة إلى محيطنا الفكري والثقافي.